إن علاقة الرواية الإحيائية بما انطوت عليه من أفكار الاستنارة، وهي الأفكار التي تجاوبت فيها عقلانية التراث العربي الإسلامي وعقلانية عصر الأنوار الأوروبي، تؤكد تولد هذه الرواية عن مدينة متحولة، تستهل خطى التحديث التي تلازمها أو تترتب عليها نزعات محدثة، يختلف بها وعي المدينة عن وعي غيرها من المدن التقليدية التي تظل غارقة في سباتها النقلي. وفي الوقت نفسه، يناوئ الوعي المحدث للمدينة، في صعوده الذي يفرض حضوره الواعد ثوابت وعيها التقليدي، على نحو تبدو معه المدينة منقسمة على نفسها، ما بين بقايا أمسها المتخلف التي تأبى الرحيل، وطلائع غدها التي تتلهف على التخلص من كل ما يعرقل خطوها في ارتقاء سلم التقدم.

وتلوح المدينة، والأمر كذلك، في عيني من يتأملها عن بعد، كما لو كانت علاقات معمارها نفسه صورة موازية علاقات أفكارها المتصارعة، ومن ثم موازاة رمزية أو تجليات مكانية بالكتلة والحجر والحيز المعماري للرؤى التي تختصم في المدينة، وبالمدينة ما بين أنصار الاتباع ودعاة الابتداع.

ويظهر ذلك في التجاور المتوتر، وأحيانًا التداخل المقتحم لطرز العمارة في المدينة، خصوصًا حين يفرض التخطيط الحديث نفسه على التخطيط القديم، وتنبثق خطط جديدة بلغة المقريزي، أو «أحياء» جديدة بلغة عصرنا، تستقطب الاهتمام في تحولها إلى مراكز للقوى الجديدة، ومناطق للجذب الذي يستبدل بأفول مناطق صعود غيرها، تمامًا كما حدث في «القاهرة» التي تخلقت فيها ملامح ما أطلق عليه علي مبارك (1823 - 1893) الخطط التوفيقية، في علاقات التغير التي تعدل بها تراتب «خطط المقريزي» القديمة، بواسطة عمليات عدة من المجاورة التداخل والإزاحة والإزالة والإحلال والامتداد والانتقال، في عمران المكان الذي يستبدل واقع أمسه بوعود غده.

هذا الحضور المنقسم على نفسه للمدينة المتحولة في فضاء عمرانها وعمارتها وفضاء أفكارها ورؤاها يتجلى في الرواية الإحيائية بأكثر من علامة دالا على علة تولّده وأسباب تكونه هناك، أولا هذه الحوارية الواسعة التي جعلت من الرواية الإحيائية سردًا أشبه بالحوار المسرحي القائم على مناقشة الأبطال الذين تختلف توجهاتهم، وتتصارع ثقافاتهم، وتتعارض درجات انتمائهم ما بين الجديد والقديم، وليس من المصادفة، والأمر كذلك أن تغدو تسمية «المسامرة» عنوانًا دالا على فصول المناقشات التي تنبني عليها رواية «علم الدين» التي نشرها علي مبارك سنة 1883، وذلك بالكيفية نفسها التي أصبحت بها صفة «الحديث» عنوانًا دالا على المحاولات الروائية التي شغلت نفسها بتحولات المدينة، على نحو ما فعل إبراهيم المويلحي (1846 - 1906) في جريدته «مصباح الشرق» الذي نشر فيها حلقات «أحاديث موسى بن عصام» مستهلاً بها العمل الذي أكمله ابنه محمد المويلحي (1868 - 1930) تحت عنوان حديث عيسى بن هشام، وهو العمل الذي ظل ينشره منذ السابع عشر من نوفمبر 1898 إلى الرابع عشر من مارس 1902.

وكلمة «الحديث» قريبة من المسامرة في الدلالة على الرواية والكلام والإخبار والأخبار، فالمسامرة هي المحادثة أو الحديث ليلا، ودلالاتها متصلة بدلالة الحديث في تضمنها معاني المطاوعة والمجاذبة والمخالفة والمغايرة التي تؤديها دلالة الحوار، أما «الحديث» فينفرد بما يصل معنى التلفظ بمعنى الجدة والمخالفة، فهو الكلام الذي نتكلمه والفعل المبتدع الذي لم يكن فأحدث کی يثير الخلاف حوله بالكلام، شأنه شأن «حادثات الأمور» وهي المبتدعات التي تكن، وأول ما يبدو من نقائض القديم، حيث الجديد الذي يثير الخلاف، وذلك، تحديدًا، هو باعث حديث «عيسى بن هشام»، الذي يبدأ من الكلام، عما في الحال العام، من خلل ونظام وحرب وسلام واختلاف ووئام في فترة من الزمن هي فترة المحدثات التي تستلزم الحديث حولها وعنها وبها.

والعلاقة بين مبنى «المسامرات» ومبنى «الأحاديث» تستدعي «المقامات» وتذكّر بها على الأقل في الدلالة التي تصل «المقامة» بمجلس الجماعة المتحادثة من الناس في بغداد أو دمشق القديمة، ولكن دلالة «الأحاديث» تؤدي معنى المجاورة المتوترة بين القديم والجديد، خصوصًا في انفرادها بالإشارة إلى أخبار المحدثات المبتدعات والمحادثة حولها، فتصل مبنى «المقامة» من حيث هو شكل سردي تراثي بمبنى الرواية الذي هو فن مستحدث، وذلك على نحو تتجاور به عناصر المبنيين في حيز فراغي واحد، ذلك الحيز هو حيز التوتر الذي يسترجع اسم الفاعل الأول للحديث فيه عيسى بن هشام مسمى نظيره القديم في الزمان الهمذاني، في إشارة سردية موازية في دلالتها للحيلة التي يفتتح بها المويلحي حديثه المحدث بالمقابر، التي ينفتح واحد منها ليخرج منه أحمد باشا المنيكلي، ناظر الجهادية القديم الذي يمضي مع نظيره في دلالة القدم، عيسى بن هشام، في مراقبة مبتدعات الزمن المتحول الذي يضعه الحديث كله موضع المساءلة والنتيجة ازدواج دلالة التوتر ما بين دال السرد نفسه ومدلوله.

أقصد إلى مجاورة التوتر التي يجمع فيها شكل الحديث ما بين محدثات السرد الروائي وموازياتها القديمة على مستوى الدال والمجاورة نفسها التي يجمع بها منطوق الحديث، ما بين محدثات الأمور ومقابلاتها القديمة على مستوى المدلول الذي يتحول بدوره إلى دال على فترة من «مقامات» بديع هي الزمن. كلمة «الحديث» قريبة من المسامرة في الدلالة على الرواية والكلام والإخبار والأخبار، فالمسامرة هي المحادثة أو الحديث ليلا.

1991*

* ناقد وأكاديمي مصري (1944 - 2021)