لماذا يشغل الرجال نسبة أكبر من النساء في معظم الأعمال والمهن سواء القيادية أو الإبداعية. ولماذا -عبر التاريخ- كان الرجال هم الساسة والمحاربون والفلاسفة والمخترعون والتجار والشعراء؟ وكان حضور المرأة في هذا المشهد الكبير خجولا؟

جدلية لا بد أنها واجهتكم في حوارات مختلفة، البعض يعتقد أن غياب المرأة ناتج من ضعف قدراتها مقارنة بالرجل والحقيقة أن هذه الفكرة لا تستند على منطق علمي ولا تتماشى مع معطيات التجربة الإنسانية. البعض الآخر يرجع الأسباب إلى الوصاية الأبوية التي أضعفت النساء، وربما يكون في هذا جزء من الحقيقة ولكن قطعا هو ليس الحقيقة الكاملة.

حتى نفهم السلوك الاجتماعي المتغير علينا أن نراجع تاريخ نشوء المجتمعات ونحاول فهم مخيلتها البدائية وكيفية تراكم أنساقها المؤثرة على الفكر والقيم والسلوك وفي هذا المقال أحاول استقراء بعض العصور التي صنعت للمرأة مصيرها ونمط حياتها، نتحدث على سبيل المثال عن «العصر الأمومي» «عصر الزراعة» «عصر الأديان» وأخيراً «عصر العولمة».

تشير الدراسات الأنثروبولوجية إلى حالة الألوهة التي أسبغها أسلافنا في المجتمعات الأمومية على المرأة إذ اعتقدوا أن الأنوثة مباركة مختارة للخلق والغذاء، فشعر الرجل تلقائياً بأنه الجنس المنخفض الخطأ، وفسر غرائزه تجاه الأنثى على نحو روحاني، ثم سخر نفسه للتقرب منها ورعايتها. تطورت المرأة باتجاه السماء فهي تنعم بالتقديس والتكريم وتتغذى بمشاعر الأمومة وتكتشف عوالم الحس، بينما الرجل كادح في الأرض يلاحق الطرائد ويعاني من قلة الموارد ويحاول توفير القرابين للمرأة التي ظل يدور في فلكها ولا ينازعها مكانتها.

جاء بعد ذلك عصر الزراعة، إذ تطور الرجل هو الآخر ولكن باتجاه الأرض فاكتشف مبدأ (الملكية)، لقد كان محتاجا لتملك حقله ومحصوله وذريته وكذلك امرأته. في هذا العصر تراجعت مكانة المرأة فقد أصبحت جزءاً من المنظومة الأرضية التي صنعها الرجل.

ثم جاءت الأديان وركزت كلها بلا استثناء على تأطير تجربة العصور السابقة إذ اختصت المرأة بالأمومة والتبعية، وبقي الجهد والإطعام من واجبات الرجل مع ترتيب العلاقة الزوجية بينهما وفق قيم ومنافع وأخلاقيات دينية.

يمكننا أن نقول إذاً إن المرأة عبر تاريخها لم تحاول أن تجد الطريق إلى الأرض. بل وربما هي نفسها أحبت فكرة السمو الأولى، بعض النساء ما زلن يطمئن لهذا التخدير تحت مسمى (الدلال) و(الرعاية) من الرجل، في المقابل نجد أيضاً من الرجال من يحارب عمل المرأة ويقلل من إمكاناتها معتقداً أنه لا يزال ثمة خيارات أخرى.

نحن اليوم في زمن العولمة المتسارع، حيث القوة للعلم والاقتصاد، وحيث تتضاءل الفوارق بين الأجناس والأعراق والفئات، ويصبح الإنتاج هو المعيار الأهم الذي تقوم عليه حياة البشر. وأعتقد أن هذا العصر بما فيه من تحولات ثقافية حادة سيشكل واقعاً جديداً تحصل المرأة فيه على مكانها الطبيعي على الأرض.

ختاما... يبدو أن المرأة أدركت متأخراً منذ القرن الماضي أن بقاءها في معبد الرجل أو في مزرعته لا يلبي حاجاتها وأن الأفكار (الهوائية) حول ضعفها الجسدي والنفسي هي محض احتيالات، كما عرفت أنه بمقدورها أن تقدم كثيراً لنفسها وللحياة. قطعت مسافة طويلة وما زال يتبقى أمامها معضلة المجتمع الذي يجب أن يتبنى فهما عميقاً يدفع باتجاه تغييرات جذرية في طبيعة العلاقات وتكوين الأسرة بما يعزز حالة المساواة ويوسع دائرة الفعل التشاركي.