إذا كان ثمة من المستشرقين من ينكر وجود العرب البائدة أساسا، لأنهم لم يجدوا لطبقاتهم أسداء فى اللغات القديمة والمصادر الكلاسيكية، وإذا كنا نوافقهم على ذلك، لأن القرآن ذكر جوانب من حياة هؤلاء، فلا شك أن هذا في حد ذاته يفتح أمامنا بابا واسعا على عالم من الخرافات والأساطير لم يبتدعه خيال الرواة المسلمين بقدر ما خاض فيه الجاهليون.

ولقد ينكر بعض المسلمين ألا يكون علميق من العرب البائدة، بل زعم زاعمون أن عاداً الأولى التي ذكرها القرآن في قوله تعالى «ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد» هي تارة دمشق، حتى نسج «باب جيرون» بها حكاية جيرون بن سعد بين عاد، وهى تارة أخرى الإسكندرية التي بناها شداد بن عاد، واكتشفها الإسكندر المقدونى. وفي هذه الحالة، ينبغى أن نعترف أن الشخصيات الجاهلية التى روت مثل هذه الحكايات أيام الإسلام الأولى - كوهب بن منبه وعبيد بن شريه - كانت على دراية واسعة بدنيا خرافية فذة، ومن ثم ينبغي ألا نحرم العرب حقهم من الفنون التى خلدت معتقداتهم وتقاليدهم على الحجر حينا، وفي المدونات حينا آخر، وعلى الألسن في كثير من الأحيان، ولسنا فى حاجة قط حينئذ إلى أن نضيف لهم بالضرورة مثل ما يضاف لأصحاب الحضارات التى رجع بها الدارسون إلى ألفى سنة قبل التاريخ أو ثلاث، فمن المؤكد أنها - إلى أن تثبت نهائيا - لا تقدم أصولا حقيقية لما وجد للعرب من حكايات خرافية.

لكن ما تاريخ هذه البطون العرية التي بادت؟ لسنا نعرف على الإطلاق.

وإذا استثنينا النقوش البابلية الأشورية والمعينية السبئية واللحيانية والثمودية والصفوية والنبطية والكنعانية، فإن كتبا علمية أو أدبية حول ذلك لم تصل إلى أيدينا. مع ذلك، فيمكن أن تقرر من خلال الكتاب المقدس، الذى ذكر هدورام من نسل يقطان أي قحطان، أن الشعور الدينى العربي يقتطع من تاريخ الشرق 15 قرنا كاملة. وإلى نحو هذا، ذهب المسعودى فى «مروج الذهب»، علما بأن قوم ثمود حاربوا الأشوريين دهرا، وأدركوا المسيح. فى حين أن هلاك صسم وجديس كان نحو عام 250 بعد الميلاد على يد جذيمة الأبرش من حمير. ويعتقد بعض الدارسين أن قبيلة جديس هی جودیستای الواردة في جغرافية بطلميوس، وكانت معروفة فى سنة 130 ميلاديا، وأن طسا هي أنعم طسم التى وردت فى نص يوناني عثر عليه في صلخد، أو هي «الطوشيم» التى ورد اسمها في التوراة على أنها من نسل ددان بن يقشان، وورد معها اسم قبيلة أخرى هي «لوميم»، أى أميم.

وكل هذا على أى حال يقدم تاريخا قريبا من الإسلام، ويرفض الإيغال فى التاريخ. لكن من المؤكد أن ما ورد من أسماء الأعلام والآلهة والأصنام والسحرة عن هذه الفترة أكثره قديم، ولهذا لا يمكن أن تكون خرافاتها كلها متأخرة، ولا يمكن أن تمثل هذه بالتالى أيديولوجية واضحة نوعا ما، وينسحب هذا الكلام على طبقات العرب بعد البائدة، ونعني العرب العاربة من أسلاف قحطان، والعرب المستعربة من نسل عدنان.

وتاريخ أولئك وهؤلاء معروف إلا أن كثيرا من الحكايات الخرافية دارت حول أولاد قحطان الذي ورد اسمه في سفر التكوين «يقطان»، وجده الخامس نوح فى رأى أكثر النسابين. والعجيب أن الانتساب إلى القحطانيين لم يکن معروفا لدى الجاهليين، ولم يذكره القرآن الكريم، وإنما وقع في شعر الحماسة على نطاق ضيق. لكنه كان محور عدة حكايات نادرة، اختلطت أعلامها بأعلام وردت بنصها فى التوراة أو بصورة قريبة منها. كما نسج الكثير من الأساطير حول أولاده كيعرب الذى غلب بقايا عاد، ووزع إخوته على الأقطار، بحيث أقر أخاه حضرموت على ما عرف باسمه، وعمان على أرض عمان، وجرهما على الحجاز.

وأما العدنانيون، وهم العرب المستعربة، فينتمون إلى عدنان، وكان إسماعيل بن إبراهيم جده الخامس عشر أو العشرين أو الأربعين، واشتبك أولاده وأحفاده مع القحطانيين في صراع أودى بحياة الكثيرين. وروى الرواة عنه وعن أبيه من هجرة ورحلة وبناء وتخريب، وتقديس بأنواع الرموز والشعائر والتمائم، مما يؤكد أن الجاهليين شحنوا مدوناتهم بالخرافات والأساطير، وربما كان بعضها بالمعينية السبئية التى كانت حتى السنوات الأولى للإسلام معروفة ومتداولة، كما يقرر كل من ديتلف نيلسين وفراتز هومل، وأسقط أغلبها تحت راية القرآن، لوثنيتها ومخالفتها روح الإسلام والتقاليد الجديدة. الانتساب إلى القحطانيين لم يکن معروفا لدى الجاهليين، ولم يذكره القرآن الكريم، وإنما وقع في شعر الحماسة على نطاق ضيق.

1975*

* باحث وأكاديمي مصري «1927 - 2008»