تطرقنا في مقالة سابقة لفيلم (AVATAR) لمخرجه الشهير جيمس كاميرون الذي استطاع بخبرته الطويلة في صناعة الأفلام أن يفكك المنظومة الفكرية لثقافة الاستعمار التي توجهها الأسواق الاستهلاكية والشركات الرأسمالية. الفيلم - كما أشرنا في المقال السابق- من الأفلام الذكية والعميقة لما تضمنه من أفكار ورموز ذات أبعاد متعددة، لا يمكن اختزالها في مجرد الصراع بين القديم والجديد أو التقليد والمعاصرة، أو مجرد الإشارة للأفعال غير الإنسانية التي يرتكبها المستعمر في حق الشعوب المضطهدة. فالفكرة الجوهرية للفيلم أبعد وأعمق من ذلك بكثير.

دعونا نناقش - من زاوية مغايرة- الثيمة الجوهرية للفيلم التي تتمركز حول فكرتين أساسيتين، الأولى هي عقيدة «وحدة الوجود» والأخرى (مفهوم الحداثة). فالحداثة الغربية نشأت بفعل الصراع مع عقيدة وحدة الوجود، وبالتالي يمكن تعريفها بأنها الانقلاب الحضاري على عقيدة وحدة الوجود. في قصة الفيلم نجد شعوب النافي (NAVI) التي تسكن كوكب باندورا، وهي شعوب مسالمة تعيش وئاما مع روح الطبيعة، ويظهرهم الفيلم مرتبطين روحيا معها، فقد اهتموا بإبقاء مظاهرها بحالة غير متأثرة بأي تدخلات غير طبيعية. عاشوا بجانب شجرة ضخمة تدعى شجرة الأرواح (Souls tree)، يعتقدون أنها تربطهم بأرواح أسلافهم عبر طقوس دينية خاصة.

والمبدأ الأساسي لعقيدة وحدة الوجود هو أن الأرض والطبيعة من الأشياء الإلهية وفق معادلة بسيطة: الله = الكون. ولذلك يحب معاملة الطبيعة على أنها مقدسة. فأنصار وحدة الوجود يعتقدون بأن ما هو إلهي موجود هنا على الأرض، إنها الطبيعة، ولذلك يعبدونها ويقدسون مظاهرها. قد تبدو هذه العقيدة غريبة بالنسبة للمؤمنين بالشرائع السماوية، فهم ينزهون الخالق عن عالم المخلوقات، لذلك عاشت عقيدة وحدة الوجود حالة صراع تاريخي مع العقائد الدينية في الأديان السماوية الثلاثة. وفي التراث الإسلامي نتاج ضخم للفقهاء المسلمين يتناول هذه العقيدة ويحاول دحضها وإنكارها.

نلاحظ في أحداث الفيلم شعوب النافي (NAVI) واعتقادهم أن الطبيعة يجب أن تكون محبوبة ومقدرة ومحمية. ببساطة إنهم يعاملون كوكبهم على أنه كيان مقدس يجب حمايته من جيش الغزاة القادم في رحلة علمية للتنقيب عن معدن ثمين جدا يدعى (أونوبتينيوم). وهنا يبدأ الصراع بين الشعوب المتدينة التي ترغب في الحفاظ على طبيعتها المقدسة، وبين جيش الغزاة القادم من أجل استغلال الطبيعة وتدميرها والسيطرة عليها. هذه باختصار فكرة الفيلم أو لنقل إنها المبدأ الأساسي لفكر الحداثة. فالحداثة في الفكر الغربي يمكن اعتبارها انقلابا حضاريا على عقيدة وحدة الوجود المترسخة في وجدان وقلوب الشعوب الأوروبية، باعتبارها تمثل موروثا دينيا بالنسبة إليهم، يعود أصلها للتراث اليوناني القديم الذي كان ولا يزال يؤثر في العقلية الأوروبية.

هل اندثرت عقيدة وحدة الوجود في المجتمعات الغربية اليوم، أم إنها ما زالت تمارس تأثيرها النفسي فيهم؟ لقد تطورت هذه العقيدة في العصر الحديث، فالمؤمنون أو المتأثرون بها لم يعودوا يعانقون الأشجار ويتبركون حولها، ولم يعودوا يعتقدون بأن الشمس كوكب أزلي لا يتعرض للذبول، أو يؤمنون بأي قوى خارقة للطبيعة تتحكم في مظاهرها. لقد وضعت وحدة الوجود في حالة جديدة بوصفها فكرة يمكن أن تساهم في خدمة عالمنا اليوم، وما يمكن أن توفره من دعم للأخلاقيات البيئية، فهي اليوم أشبه بدين يشجع على حماية البيئة، ويحميها من الإفراط في استهلاك الموارد الطبيعية. وتمخض عن ذلك سياق فكري متكامل يشجع على تبني نمط عيش صديق للبيئة، يرنو لحب الأرض والاستمتاع بطبيعتها الخلابة.