الربيع الربيع، هو ذا الربيع !

في انبلاج الأسحار، في صدح الأطيار،

في عبير الأزهار، في الأصيل البديع

الربيع الجديد، هو ذا الربيع:

***

في القلب السعيد هو ذا الربيع: لأن الوجه المحبوب المختبئ في سويدائه استهل مشرفًا على الخليقة. فبدت خيمة الفلك محرابًا يتفشى فيه ذلك البهاء وتسطع في رحابه بهجة الآمال. وها هي ذي أصوات الربيع وعطوره وألوانه وأشكاله وملموساته. ترسل معاني التهليل والتسبيح، لأن رموزها اقتنصت من ذلك الوجه لمحة فنضحت خطوطها برونقه وروائه. وجمدت أبدية الغبطة في لحظة أمام القلب السعيد فما كانت خوالجه إلا نشيدًا لاهجًا: وجدت مسرحًا لهيامي، أيها الربيع ! يا ربيعي النشوان، يا هذا الربيع !

***

في الحدائق والرياض هو ذا الربيع:

فتجمهرت نفوس الخلان ترقب منه الصحو والترف والإشراق في

متاحف الضياء ومعارض الوشي والنقش. فكللت الأشجار تيجان السناء،

وخشعت الغصون كأنها في حضرة ربانية، أو كأنها تتهيأ لتلقي نبأ خطير

هو حرف من كلمة الوجود المكنونة. أقضي الأمر، وفزت أيتها الكائنات بما تتوقعين ؟ إني لأخالك تغتسلين في سيال من ذوب الفرح والظفر. وكأن كل ما انتشر في الأزمنة والأمكنة من مراجع الأنغام يتجمع في حضنك لينشد:

شتيت الأجزاء واحدية، أيها الربيع !

على طور حسنك تتجلى معك، يا هذا الربيع

***

في الينبوع المهجور هو ذا الربيع:

المياه الفضية تترنم تحت فيء الشجرة الشفيق وقد أنالها الربيع قوة الحياة وقوة الاستفاضة. ففي شدوها إغراء التشويق، ولين الاستعطاف، ونبرة الوعيد. وثقة النوال. تجري على الأرض مسارعة إلى حيث لا تدري فلا تحسب ولا تدخر، وتمر الساعات فلا يتفيأ شجرتها طرية الهجير ولا ترجع مرآتها المتجمدة وجه المرتوي الشكور. فتخالط تدفقها الكآبة وتبيت تحلم بالذين طوحت بهم السبل فساروا في القفر عطاشا وهي ينصب مدرارها الأجاج جزافا. فتحنو على منبعها عند الشفق الغصون، ويجري مع المياه تنهد ونحيب:

الربيع الحزين، هو ذا الربيع

ربيع الهجران، كيف احتمل الربيع ؟

***

في الصحراء القحطاء هو ذا الربيع:

الصحراء الواجمة الكتومة، كذلك كانت وكذلك ستكون. أللحياة أشكال وأنظمة ؟ أفي الحياة ولادة وموت ؟ أفي الحياة تحويل وتبديل ؟ أفي الحياة مجد الخصب والنمو ؟ مه عن الصحراء يا أيهذا اللغو السقيم !

ماؤها سراب، وظلها تراب، وسبلها أتاويه، وملامس الحياة فيها لوافح وسموم، ومعالمها مجاهل المفاوز وأفجاج الأهوال. إنها في ربدتها وقحطها حجة رهيبة على إجحاف يجرد بلا ذنب، ويبتاع خصب المروج بمحل مقيم.. إنها في سكونها الأبدي وعقمها المتكبر أسيرة الوحدة والانزواء؛ حبيسة تزدرد الرمال على الدوام، وكأنها في بعدها تقول:

ليس لي الربيع، ليس لي الربيع !

السعير، ما حاجتي بالربيع ؟

هو ذا الربيع، هو ذا الربيع

مغريًا في الفضاء، فتانًا في الحدائق؛ بهيجًا في الألوان، شفافًا في الرقائق؛ طروبًا في قلب الجذلان.

هو ذا الربيع، هو ذا الربيع. حزينًا في قلب المظلوم، صارمًا في قلب المحروم ؟ شاملًا بعطف نصفه قسوة، حاضنًا بحنان نصفه عنف؛ موحيًا أملًا نصفه يأس، مولدًا خصبًا نصفه عقم؛ مثيرًا شبابًا نصفه شيخوخة، مجددًا حياة نصفها ردى.

الربيع الربيع الربيع الجديد، هو ذا الربيع ! الربيع العابر، هو ذا الربيع !

1923*

*كاتبة فلسطينية/ مصرية «1886 - 1941»