فيما أخذت معالم المعنى القديم لملامح العالم تقتلع من جذورها منذ مطالع تسعينينات القرن الماضي (نهاية السرديات الكبرى «الماركسية، الاشتراكية، الخ»، تشتت مرجعيات الحياة اليومية، تصدع القيم). طبع تلف المعنى، الفرد، الذي أخذ يرسم لنفسه حدوده في السراء والضراء، ويقيم بطريقة متحركة ومدروسة المعالم الخاصة لهويته، وشبكة المعنى التي ترشده وتوجه طريقه، وتسمح له بالتعرف على نفسه كذات فاعلة. ودخل في مواجهة مع الشروط الاجتماعية والثقافية، والتاريخ الخاص بكل فرد، ومع ذلك فإن هذا الفرد ينتابه الانطباع أنه يتحكم في وجوده في العالم، وأنه يملك زمام أمره.. وأوله جسده. وبما أن الجسد هو مجال سيادة الذات على نفسها، فإنه صار هو المادة الخام لعلاقته بالعالم، كحد ينبغي استبعاده ودفعه. ومع ذلك فالجسد هو مجال التجسيد اللازم للذات، لذا فهو يجعل من نفسه المادة الخام لوجودها.

الفرد يتحرر

حول هذه المفاهيم، وتحديدا ما يتعلق بالجسد كهوية للمرء يطرح (دافيد لوبروتون) كتابه (علامات هوية/ وشوم وثقوب وأمارات جسدية أخرى). ذاهبا بعمق تحليلي أنثروبولوجي إلى أننا (لم نعد اليوم ورثة فالقطائع الاجتماعية، سواء بين الأجيال أو بين الثقافات، قد أغرقت العالم في مزيد من الحيرة وعدم اليقين. وكل فاعل من العاملين في المجتمع يجد نفسه مرغما على أن يبدع هويته الخاصة عن طريق تركيب تلفيقي تعمل العولمة الثقافية، وأعني تحويل ثقافة الآخرين إلى علامات وجماليات على تزايد مواده الممكنة).

لقد أصبحنا الآن صناع أشكال وجودنا، مع ما نتمتع به من هوامش يزداد اتساعها أو يقل. وبعبارة أخرى، فإن النزعة الفردانية توسع من هيمنتها، الأمر لا يتعلق بأنانية، بالمعنى الأخلاقي للكلمة، وإنما هي فردانية بالمعنى الاجتماعي الذي يحرر الفرد من ولائه الأخلاقي للمجتمع. لا يعني ذلك أن الفرد يتحرر من ذلك الولاء كلية، بل إنه يظل متوقفا عليه في كثير من النواحي، إلا أن هامش إبداعه يتسع، وذلك كلما كانت الثقافة المحيطة يعوزها السمك الحقيقي، فتكتفي بالعمل على طريقة سوق كبيرة للبضائع المادية والرمزية. لذا غدا تلفيق المعنى سمة تطبع العلاقة بالعالم).

لغة تمرد

يخوض الكتاب الذي ترجمه للعربية عبد السلام بنعبد العالي، أطروحته عبر عناوين لافتة منها (صناعة هوية، تلفيق هوية الجسد، إثبات الوجود في عيون الآخرين. العلامات الجسدية في المجتمعات الغربية تاريخ سوء تفاهم الديانات التوحيدية والعلامات الجسدية، وصمات العار، وشم السجناء. من علامة على الحائط إلى علامة على الجسد. البوتكس أو التغييرات الجسدية باعتبارها تمردا، البدائيون المحدثون أو تأكيد التغييرات الجسدية، هويات على البشرة دلالات الوشوم والثقوب). حيث تعرف صناعة الرسوم على الجسد ازدهارًا كبيرًا. وغدا الجسد زرعا لأنه لا يفتأ يبحث عن تجسيد لإغناء دلالات حضوره في العالم، سعياً إلى الالتحام مع ذاته. فالوشم والثقب اللذان لم يعودا من قبيل الهامشي، صارا اليوم أدوات لإبراز الذات واستعراضها. شعائر الانتقالات

بعد أن تبين دافيد لوبروتون أن الجسم الذي يحمل علامات كان منذ العصور القديمة وعند المجتمعات التقليدية تعبيرا عن مسار، وعن رسالة وبخاصة تعبيرا عن هوية، يبين كيف عارضت الكنيسة بشدة هذه الممارسة، ولكن أيضا كيف نظر إليها الجهاز القضائي، بعد البحارة والجنود، باعتبارها علامة عار. وهو يدرس الطريقة التي يتدخل بها الوشم باعتباره لغة تمرد، وهذا حتى أيامنا هذه، حيث غدا ثقب الجسد الهوية الظاهرة على الجلد التي تعني الشباب.

يستند دافيد لوبروتون إلى بحث ميداني كي يحلل على التوالي:

العلامات الجسدية في المجتمعات الغربية، والانتقال من ازدراء الذات إلى إثباتها، ثم البحث عن هوية، وعن شعائر الانتقالات، وعن ميلاد ثقافة. وهو يولي اهتمامه إلى الاختلاف بين الألم الجسدي والألم النفسي واللذة الجنسية، وكل تلك المشاعر التي تظل مرتبطة بفعل الثقب على الجسد ذاته. وأخيرا، فهو يسجل هذه المفارقة التي ترى أن منظومة العلامات الجسدية، إذا كانت تعرف تناقصا شديدا في المجتمعات التقليدية، فإنّها تتطور بشكل سريع ومبتكر في العالم الغربي الذي يطفح غنى، فيتساءل من ثم، عن رغبتنا الفردانية في أن نغير أجسادنا.

متعة الوجود

الكتاب يعتمد وثائق ثرية، يستوفي مسألة موضة جديدة تعرف ازدهارا كبيرا، وهي مسألة تهم التاريخ، مثلما تعني الأنثربولوجيا والفلسفة. اللجوء إلى الوشم الذي أصبح اليوم جاريا به العمل (وهو علامة ظاهرة مرسومة على الجلد عن طريق ضخ مادة ملونة على السطح)، وكذا اللجوء إلى الثقوب (أي ثقب الجلد بهدف وضع قطعة حلي، حلقة، أو عمود صغير، الخ.) هما شكل دال على تحوّل العلاقة بالجسد. يضاف إلى ذلك تغييرات جسدية أخرى: كـ(توسيع الثقب لكي نضع فيه قطعة أكبر حجما)، والخدوش جروح يتم القيام بها بهدف رسم علامة عميقة أو بارزة على الجلد مع إضافة محتملة للحبر) و(رسم أشكال هندسية فوق الجلد، أو رسوم عن طريق الحبر في شكل جروح تتم بواسطة الموسى أو أي آلة حادة أخرى)، وجرح بارز مرسوم على الجلد باستعمال قطعة حديد سخنت على الجمر أو عن طريق (الليزير)، والـ burning (رسم حرق على الجلد زيد من حدته باستعمال الحبر أو تابل من التوابل)، والـ peeling (نزع سطح الجلد أو الزرع تحت الجلد).

في بعض الأحيان، يكون زرع علامات الهوية حماية ضد لا يقين العالم، كما يكون رغبة في متعة الوجود، وبرهانا على أسلوب حضور.

العلامة الجلدية

ويخلص المؤلف إلى أن العلامات الجسدية تستلزم، رغبة في جلب الأنظار، حتى وإن ظل الأمر ممكنا بحسب أماكن وضع العلامات، سواء أكانت تلك العلامات قد وضعت تحت أنظار الآخرين، أم فقط تحت أنظار من نرغب في التواطؤ معهم. تظل العلامات الجسدية خاضعة لمبادرة الفرد، لذا فهي تجسّد فضاء قدسيا لتمثل الذات. عوضا عن أن يمارس الجسد رقابة على وجوده، فإنّه يظل موضوعًا في المتناول لا يفصل بينه وبين الرغبة الشخصية أي عائق، مثلما تظل أعماق الجلد قابلة لاستضافة أي دلالات تعبر العلامة الجلدية عن الحاجة إلى إكمال جسد غير كاف في حد ذاته لأن يجسد إحساسا بوجود ملائم.

تهدئة الاضطراب

إذا كان الوشم في المجتمعات التقليدية يكرّر أشكالا موروثة متجذرة في سلالة، فإن العلامات المعاصرة، على العكس من ذلك، تهدف أساسا إلى مرامٍ تجميلية تحقق للفرد استقلاله، وهي تكون في بعض الأحيان، أشكالا رمزية للانصهار في العالم، ولكن بشكل ينحصر في الشخص ويقتصر عليه، وذلك باللجوء إلى رسوم لا تمت بصلة إلا إلى الذات. إنّ العلامة الجلدية طريقة لتهدئة الاضطراب الذي قد يتولد عن الانتقال من وضع لآخر، وكيفية للسيطرة الرمزية على الحدث، وحشر التحوّل ضمن طقوس وشعائر العلامة التقليدية رغبة في إذابة الاختلاف الشخصي، أما في مجتمعاتنا المعاصرة، فهي تبرز، على العكس من ذلك، تفرد الشخص، أي اختلاف جسده الخاص المنفصل عن الآخرين وعن العالم، ذلك الجسد الذي يشكل مجال حريته داخل مجتمع لا يربطه به إلا رباط شكلي. هذا التطور للعلامات الجسدية في مجتمعاتنا الغربية، الذي لم يسبق له مثيل، هو الذي يعنيني بالضبط في هذا المؤلف.

دافيد لوبروتون David Le Breton

(مواليد 1953)

أنثروبولوجي وعالم اجتماع فرنسي.

أستاذ بجامعة ستراسبورغ، وعضو في المعهد الجامعي الفرنسي

باحث في مختبر الديناميات الأوروبي.

متخصص في تمثيل الجسم البشري ووضعه في الاعتبار، ودرسه من خلال تحليل السلوك المحفوف بالمخاطر.

تكتسي أبحاثه أهمية خاصة، ضمن حقل العلوم الاجتماعية المعاصرة

عرف باهتمامه بمجالات هامشية، لا ينتبه لها علماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الاجتماع إلا فيما ندر

تخرج من علم نفس الأمراض في أنجيه وباريس.

حصل عام 1987 على الدكتوراه في علم الاجتماع.

بدأ حياته المهنية عام 1981 محاضرا في العديد من الجامعات بما في ذلك الجامعة الكاثوليكية في أنجيه وجامعة بروكسل.

روايته الأولى «الموت على الطريق» نالت جائزة بولار ميشيل لوبرون (Prix Polar Michel Lebrun).