إذا ما أخذنا برأي الفيلسوفة الأميركيّة اليهوديّة جوديث باتلر: "في زمننا، ونحن على وشك الدخول في حقبة ما بعد الزَّمن، وربّما ما بعد الإنسان، كم يبدو كاريكاتوريّاً مصطلح "الساميّة" أو "مُعاداة الساميّة"، كما لو أنّ آدم خُلِقَ نصفَيْن: نصفٌ لليهود ونصفٌ للآخرين، أقول للقادة الأميركيّين لا أتصوّر، في حال من الأحوال، أنّ الله ألقى بنا على هذه الأرض لنكون كذلك".

للتوّ استعادت الفيلسوفة باتلر ما قاله الحاخام آرون كوهين من أنّ الصهيونيّة أقامت جداراً من النار بين اليهود والآخرين..

لدى تقديم المجلَّد الأوّل من كتابه "الديمقراطيّة في أميركا" (1835)، لم يكتفِ الكاتب الفرنسي ألكسي دو توكفيل بوصف الدستور الأميركي بـ "الإنجيل الخامس"، فرأى فيه "التوراة"، موحياً بأنّ الولايات المتّحدة "دولة فوق التاريخ".


السبب الفلسفي لذلك كونها تشكّل الخلاص للعالَم ما دامت تضمّ ثقافاتٍ وإثنيّاتٍ من كلّ الدنيا، ومن كلّ الأزمنة. ولكنْ هل هذه فعلاً نظرة الأميركيّين إلى أميركا ليأخذوا بكلام دو توكفيل "الديمقراطيّة مثل أولاد الأزقّة تربّي نفسها بنفسها"؟ عقب إلقاء القنبلة الذريّة على هيروشيما قال الجنرال دوغلاس ماك آرثر، بطل الباسيفيك، "الآن بدأت صناعةُ التاريخ".

وكان توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتّحدة قد قال إنّه حين يقرأ تلك النصوص التي شارك في صَوْغِها، يَستشعر دبيب الملائكة بين الكلمات. في وقتٍ لاحق جدّاً قالت النجمة الهوليووديّة جين فوندا في ذروة الحرب الفيتناميّة.. "لكنّني لا أستشعر سوى الانفجارات، الانفجارات الدمويّة بين الكلمات".

فوق التاريخ ... فوق البشريّة

إمبراطوريّة فوق التاريخ أم فوق البشريّة؟ إذا كانت كذلك.. أَلا يُفترَض جدليّاً أن تكون بمفاهيم فلسفيّة وأخلاقيّة بعيدة عن المفاهيم الكلاسيكيّة التي تشكّلت عبر تشابُك الأزمنة؟

ما حدث أنّ الأميركيّين الذين ترعرعوا على ثقافة الدمّ وإبادة الهنود الحمر، كما كَتبت توني موريسون، الزنجيّة الحائزة على جائزة نوبل للآداب، أبدتْ خشيتها من أن يكون "بقاؤنا رَهْناً بإزالة الآخرين".... حاذرت القول "إنّه المفهوم التلموديّ للعالَم.. أيّها السادة".

أكثر من ذلك. إذا كان ميلتون فريدمان، الحائز على نوبل في الاقتصاد، وصاحب نظريّة "النقدويّة" التي أَخذ بها كلٌّ من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، قد تحدَّث عن "عبقريّة المال" ودَوره في تمكين الولايات المتّحدة من أن تكون "على رأس العالَم"، فقد كتبتِ العالِمة السوسيولوجيّة جاكي سميث عن "عبقريّة التفاعُل"، لتُلاحِظ أنّ "مَن يزور مدينة نيويورك، أو وادي السيليكون، أو البيفرلي هيلز، لا بدّ من أن يرى كلّ العالَم هناك. هذا هو السبب في كون أميركا "البوّابة الكبرى" للانتقال إلى رؤيا أخرى لمُستقبل الخليقة"، لتُضيفَ ضاحكةً: "هنا لا على سطح المرّيخ".

لكنّ سميث إيّاها، المُختصّة في الاقتصاد السياسي، والمنظّمات العابرة للحدود، ترى المشكلة في "الأشباح الذين يحكمون أميركا"، لتضيف لم يَعُد هناك من رغبةٍ في السماء لإرسال أنبياء لتوجيهنا كيف يُفترض أن نكون. الواقع أنّنا بحاجة إلى رجال يُدرِكون ما معنى "الاختلاف الخلّاق"، لا أن نمضي في نظريّة "الالتباس الخلّاق"، وحيث الخلْط العشوائي بين "ثقافة الإنسان وثقافة الأشياء".

تساءلت "ما الحاجة إلى الأساطيل وإلى القواعد العسكريّة لنكون في كلّ مكان من الكرة الأرضيّة؟.. بالشبكة العنكبوتيّة غَزَوْنا كلّ المُجتمعات، كذلك بالجينز والروك أند رول، وحتّى بالهوت دوغ"، مُذكِّرة بقول الباحثة الفرنسيّة في الشؤون السوفياتيّة (والروسيّة) هيلين كارير دانكوس "لم تكُن الولايات المتّحدة بحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة لتفكيك الإمبراطوريّة السوفياتيّة. سيجارة مارلبورو بين شفتَيْ مارلين مونرو، أو مادونا، كانت كافية لذلك"!

عودةٌ إلى جوديث باتلر التي تُشير إلى "نقطة ضعفنا القاتلة، أن نكون إمبراطوريّة كسائر الإمبراطوريّات الأخرى. في هذه الحال، لا بدّ أن يكون غروبها كما غروب الإمبراطوريّات الأخرى؛ ومع اعتبار أنّ العديد من ساستِنا قد أبدوا انبهارهم بالنموذج الروماني: مبنى الكابيتول، وتسمية الكابيتول التي استوحاها توماس جيفرسون من مَعبد جوبيتير القائم في 'كابيتولين هيل'، وهي إحدى تلال روما السبع".

ولكن كان على جون بولتون (رجل الأدغال كما وصفته أنجيلا ديفيس) أن يقول "هذه هي البشريّة منذ آدم. لا مكان هناك إلّا لمَن يَحمل العصا. بطبيعة الحال العصا الغليظة، وإلّا كنّا رأينا جوزف ستالين أو أبا بكر البغدادي يختال على أرصفة لاس فيغاس".

أمّا زبغنيو بريجنسكي، فقد عقّب على كلام الرئيس جورج بوش الأبّ "الآن نظام عالَمي جديد"، إثر سقوط الاتّحاد السوفياتي (وسقوط عالَم يالطا) بالقول.. "بل إنّها الفوضى العالميّة الجديدة"، مُعتبِراً أنّ بالإمكان التخلّي كليّاً عن سياسات الاستقطاب وصراعاته، سواء كان أحاديّاً أم ثنائيّاً أم ثلاثيّاً، بإعادة هَيْكَلة العلاقات الدوليّة لتكون عناوين القرن بعيدة عمّا "تتفوّه به الأحذية الثقيلة، إنْ بلغة الحرائق أو بلغة الوحول".

كلّ هذا لننتقل إلى الشرق الأوسط، على أنّه منطقة البدايات ومنطقة النهايات (آرنولد توينبي)، بعدما لاحَظ هيرودوت، منذ 2500 عام، وقوعه على خطّ الزلازل. ثمّة دول تقرأ التاريخ، وحتّى الأحداث، بعيون عرجاء، من دون أن تُدرِك ألّا مجال للاستعادة الجيوسياسيّة أو الجيوستراتيجيّة للإمبراطوريّات التي أُهيل عليها الكثير من التراب أو الرماد. متى توقّفت القوى العظمى عن اللّعب بالصراعات الإقليميّة، الصراعات العبثيّة للمضيّ إلى أبعد مدى، في سياسات الاستنزاف والاحتواء؟

لا أحد من العرب ضدّ الولايات المتّحدة. ملايين العرب هاجروا إلى هناك.. وملايين أخرى تتمنّى اللّحاق بهم. أسلوب الحياة الأميركي (Lifestyle) بات جزءاً من يوميّاتنا، وحتّى جزءاً ديناميكيّاً من ثقافتنا. المشكلة تُختزَل بكلمة واحدة، كلمة تتقيّأ الدمّ (جدعون ليفي دعا إلى التوقُّف عن صناعة الجماجم): إنّها إسرائيل.

وديعة أميركيّة لا إلهيّة

بمُنتهى البساطة، ربّما بمُنتهى السذاجة، سؤالنا ألَم يكُن بإمكان الولايات المتّحدة فَرْض تسوية عادلة للقضيّة الفلسطينيّة، وكنّا شهوداً على ما فَعَلَه الرئيس دوايت آيزنهاور، بطل النورماندي، بكلٍّ من دافيد بن غوريون وموشي دايان (شتّان بين الاثنَيْن وبنيامين نتنياهو ويوآف غالانت) حين أمرهُما بالانسحاب من شبه جزيرة سيناء في العام 1956؟ أيضاً، ما العائق دون الإدارات المُتعاقبة منذ العام 1967 وإرغام إسرائيل على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242؛ لنتوقّف عند قول المؤرِّخ الفرنسي المعروف إيمانويل تود من أنّ الساسة في إسرائيل حَوّلوا دولتهم من وديعة إلهيّة، كما كان يفاخر تيودور هرتزل، إلى وديعة أميركيّة.

إدوارد سعيد رأى منذ ثلاثة عقود، أنّ قوّة المسيحيّين الصهيونيّين تزداد تأثيراً على مراكز القوّة في الولايات المتّحدة، حتّى لتتجاوز قوّة اللّوبي اليهودي (آيباك) الذي وَاجَهَ تصدُّعاً لافتاً على خلفيّة الحرب في غزّة.

هذا ما صنعه البيوريتانز (الطهرانيّون) الذين اضطرّوا للهجرة من إنكلترا إلى العالَم الجديد في النصف الثاني من القرن السابع عشر، بحمولة توراتيّة تمَّ تسويقها ببراعة داخل مُجتمع في طور التشكُّل ليتّهمهم القسّ برنارد إيرفنغ بـ "مُحاولة تدمير المسيحيّة في البلاد"." هؤلاء قالوا بالتماهي اللّاهوتي والتاريخي بين خروجهم من بطش الملك جيمس وخروج العبريّين من بطش الفرعون".

هكذا تمكّنوا من اختراق اللّاوعي داخل الجماعات على أنواعها، لنُشاهد ولايات أميركيّة مثل كونيكتيكت ونيوجيرسي، وهي تأخذ بالنَّسق العبريّ في تركيب، وفي أداء السلطة، كما أنّ أوّل أطروحة دكتوراه في جامعة هارفرد في العام 1642، كانت بعنوان "العبريّة اللّغة الأمّ"، وأوّل كِتاب صدر كان "المزامير" وأوّل مجلّة كانت "اليهودي"، حتّى أنّ أولى المستوطنات على أرض فلسطين أقامها مسيحيّون صهيونيّون في العام 1850 بتمويلٍ من رجال أعمال أميركيّين.

في يوميّاته، كتبَ تيودور هرتزل في "مؤتمر بازل في العام 1897، وُلدت الدولة اليهوديّة، لكنّ الكنيسة البروتستانتيّة أطلقت الصهيونيّة كحركةٍ سياسيّة قَبل ذلك بنحو 300 سنة من انعقاد المؤتمر (قبل البيوريتانز)"، لتَكتب بيان نويهض "إنّ اليهود كانوا آخر مَن اكتشفوا الصهيونيّة في أوروبا".

مُعاداة الساميّة، أي مُعاداة اليهود، وُلدت في القارّة العجوز. لا شكّ أنّ اليهود واجهوا الكثير من الآلام في بعض بلدان القارّة. لم تكُن هذه حالتهم في البلدان العربيّة إلّا بعد اندلاع الأحداث على الأرض الفلسطينيّة. اليهود في الأندلس، لمَن يَعرف أيّ دور لاهوتي، وحتّى سياسي لموسى بن ميمون، شَغلوا مواقع محوريّة في البلاط، كما في الدواوين، ليحملهم العرب على ظهورهم وينقذونهم من مَحاكم التفتيش التي أنشأها فرديناند الثاني وإيزابيلّلا. إبّان انعقاد مؤتمر مدريد حول السلام في الشرق الأوسط، خريف العام 1991، التقيتُ كولونيلاً سابقاً في جيش الجنرال فرنشيسكو فرانكو، أكّد لي أنّه من أصلٍ عربيّ، وأطلعني على بطاقة هويّته. اسم العائلة "ميديني"، أيّ "محيي الدّين"، ليُفاجئني بالقول "الحضور اليهودي في البلاط الأندلسي كان من التأثير بحيث قال لي أبي، وكان أستاذاً للتاريخ في إحدى الجامعات.. لولا إيزابيلّلا لَبويِع يهوديٌّ خليفةً على المُسلمين".

لننتقل إلى الخدعة الكبرى. التسويق المنهجي للمُحاكاة بين "مُعاداة الساميّة"، والسياسات الإسرائيليّة، بعيداً عن الحدّ الأدنى من العقلانيّة في التفريق بين الحالتَيْن. أمامنا ردَّدَ محمود درويش ساخراً ومُستهجِناً: "كلّ مَن لا يعجبه أحمر الشفاه الذي كانت تستخدمه غولدا مئير، فهو مُعادٍ للساميّة". ولكن لماذا لم يتجرّأ أحدٌ على التنديد بوصف توماس فريدمان لبنيامين نتنياهو بأنّه أبشع سياسي في تاريخ اليهود؟

المحرقة الفلسطينيّة

الشعار إيّاه جرى توظيفه على نحوٍ عاصف خلال الحرب في غزّة. ممنوعٌ على أيٍّ كان في العالَم الغربي الاعتراض، ولو برؤوس الأصابع، على "المحرقة الفلسطينيّة" التي فاقت بهمجيّتها "المحرقة اليهوديّة"؛ لكنّها الأرمادا الإعلاميّة التي تَصِل، ولَو عنوة، إلى كلّ الأسماع، وإلى كلّ العيون. عشرات الشخصيّات الأميركيّة أُقصيت من مواقعها لوقوفها إلى جانب الضحايا، مع أنّ المواقف الاعتراضيّة اخترقَت حتّى وزارة الخارجيّة، وحتّى وكالة الاستخبارات المركزيّة.

الحجارة.. "حجارة يهوه" كما وَصَفَتْها المؤرِّخة اليهوديّة الأميركيّة آفيفا تشومسكي، وصلتْ إلى رئيسة جامعة هارفرد لتسأل: "أيّ هيروشيما الآن حين يكون هناك مَن يفتك بالروح الأميركيّة؟!".

التهديد بالقتل

بتهمة الترويج لمُعاداة الساميّة، طلبَ 74 مشرّعاً إقالة كلودين غاي، أوّل إمرأة، وأوّل سوداء، تتولّى هذا المنصب. المُطالَبة حدثت إثر جلسة استماع مُلتبِسة في الكونغرس حول استشراء عدوى" مُعاداة الساميّة" في حَرَمِ الجامعة. لكنّ رسالةً موقّعة من مئات الأساتذة والطَّلبة حالت في البداية دون طرْدها. بعد أسابيع نَشرت غاي مقالة في "النيويورك تايمز" حملت فيها على "الغوغائيّين والانتهازيّين الذين أرغموني على التنحّي".. لتُضيف "لقد طُعنت في شخصي وذكائي بإشاعة الشكوك حول عدم التزامي بمُعاداة الساميّة، بعدما ضجّ بريدي بالشتائم والذمّ إلى حدّ تهديدي بالقتل".

غاي اتَّهمت أصحاب الحملة بـ "تقويض المُثل التي ظلّت تبعث الروح في جامعة هارفرد منذ تأسيسها، أي التميُّز والانفتاح والاستقلاليّة والحقيقة". على صفحتها كتبتْ "أيّ أميركا حين يتولّى الأشرارُ اغتيالَ العقل فينا؟!".

أساتذة وطلّاب جامعيّون تجرّؤوا ظ " كشكلٍ قاتلٍ من أشكال البربريّة التي تُهدِّد بتدمير الأدمغة كأساسٍ في قيام "أميركا العظمى". إنّها "هارفرد المقدَّسة"، كما وَصَفَها ذات يوم جون شتاينبك صاحب "عناقيد الغضب"، لأنّ منها تعالت الأصوات للحدّ من الآلام التي يُعاني منها "مواطنو العراء" أو "مواطنو الأرصفة"، حين يعاملون كما أكياس القمامة، فيما قال أحد رؤسائها لورنس سامرز (2001 - 2006) "إنّ السماء تبعث إلينا بالأدمغة، ونحن نقوم بتشغيلها".

2500أستاذ و25000 طالِب. منها خَرَجَ 8 رؤساء أميركيّين، و79 من حَمَلَةِ جائزة نوبل، إذْ تأسّست في العام 1636. فقد قاد جورج واشنطن من حَرَمِها حربَ الاستقلال ضدّ الإنكليز، كما اختبأ فيها لمدّة 45 يوماً حين حاصَر المُستعمِرون مدينة كامبردج حيث مقرّ الجامعة. والطريف هنا أنّ محكمة ماساشوستس أجازت تأسيسها، مُعلِّلةً ذلك بالخشية من "أن يُصبح خدّام الكنائس أُميّين عندما يُصبح الخدّام الحاليّون تحت التراب"، لتتحوّل هارفرد إلى العلمانيّة في القرن الثامن عشر.

وكانت سالي كورنبلوث، رئيسة "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا"، قد أُرغمت على الاستقالة بالدعوى ذاتها، وكذلك رئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماغيل.

النيو مكارثيّة لم تتوقّف هنا. ثمّة مَن يَصف ما يَحدث حاليّاً بأشبه ما يكون بـ "مُطاردة الساحرات". الأستاذ السابق في جامعة برنستون روبرت همفري قال: "مَن يقفل الأدمغة في أميركا، إنّما يعمل لتقويض أيّ أثر للحياة فيها"، ليتوجَّه إلى الكونغرس بالسؤال: "مَن منكم مَعنيّ بموت الزمن في أميركا؟"، مُعتبراً "أنّ من الضروري أن نهيل التراب أكثر فأكثر على ضريح السناتور جوزف مكارثي، لا أن ننبش عظامه".

وكان هذا السناتور الجمهوري الذي وَصَفَهُ راي برادبري، مؤلِّف رواية "فهرنهايت 451" بـ "الرجل الآتي من عالَم القِردة"، قد أَطلق في بداية الخمسينيّات من القرن المنصرم حملةً ضدّ مَن اعتبرهم عُملاء للشيوعيّة التي رأى فيها "الإيديولوجيا التي تجرّنا بالحبال إلى الجحيم".

بطبيعة الحال، استغلّ المناخات التي سادت مع اندلاع الحرب الباردة، ليقول فيه ستانلي كوبريك، مُخرج "البرتقال الآلي"، "ذاك الذي يُريد أن يملأ رؤوسنا بالفحم الحَجري".

اللّافت هنا تحذير الكاتب الأميركي جيفري سان كلير من أن "نكون أمام النسخة الأميركيّة من أرخبيل الغولاغ"، وهو المُعتقل الستاليني الرهيب في سيبريا، وكان موضوع رواية ألكسندر سولجنتسين الشهيرة.

المكارثيّة التي طاوَلت شخصيّات يهوديّة بارزة (ربّما باعتبار أنّ كارل ماركس يهودي)، وكذلك شخصيّات أخرى لا علاقة لها بالماركسيّة، ولا بالاتّحاد السوفياتي، لكنّها كانت اعتراضيّة، بصورة أو بأخرى، على "هيستيريا السوق" أو على نَهجٍ ما في السلطة. من هؤلاء الضحايا جورج مارشال الذي أخرج أوروبا بمشروعه الشهير من الحطام؛ وألبرت آينشتاين الذي قال "أفهم العالَم، وأفهم التاريخ، كما يقول لي ذلك الرأس الذي على كتفي، لا كما يروق للأوثان"، وتشارلي شابلن الذي اعترضَ على "مكْنَنة الكائن البشري"، والكاتب آرثر ميلر، مؤلِّف "موت بائع متجوّل"، بانتقادٍ عاصف لنسق الحياة داخل المُجتمع الأميركي، وبرفْض "قطع رؤوس المثقّفين"، كذلك مارتن لوثر كينغ، وحيث يحقّ للأسود أن يَحلم بأن يكون إنساناً.

الآن يدعو الفيلسوفُ الإيطاليُّ جورجيو آغامبين الأميركيّين إلى "إقفال الباب في وجه ذلك التسونامي الأسود". لكنّنا نرى كيف أنّ العشرات، وربّما المئات في هوليوود، أو في وول ستريت، فضلاً عن الجامعات، يفقدون وظائفهم، لموقفهم من طوفان الدمّ بعدما كانت تهمة مُعاداة الساميّة قد سَحقت العديد من الفلاسفة والمفكّرين والشعراء والكتّاب في أوروبا.

روجيه غارودي، فيلسوف الأمل، حُكم عليه بالسجن الموقوف لمدّة 9 أشهر بسبب كتابه "الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيليّة"، وكان قد رأى أنّ الغرب بحاجة إلى زلزالٍ في اللّاوعي، مُعتبراً أنّ الاحتضان الميكانيكي للقادة الإسرائيليّين، إنّما يُهدّد إسرائيل في الدرجة الأولى.

غارودي قال "لو تسنّى لهم أن يأكلوا لحمي لما تردّدوا في ذلك. لكنّهم تمكّنوا من دفني وأنا على قَيد الحياة"، سائلاً ما إذا كان من المنطقي أن يغسل الأوروبيّون أيديهم من الهولوكوست بدماء الفلسطينيّين ودموعهم؟!.

كلّ أثرٍ له حُذِف من موسوعة الفلاسفة. كُتبه أُحرقت في الساحات مثلما أُحرقت كتب ابن رشد. في الغرب لم يَعُد غارودي موجوداً حتّى في الذاكرة. وإذا كان باستطاعة المؤرِّخ الإسرائيلي شلومو صاند أن يكتب عن "اختراع الشعب اليهودي"، فقد اتّهم الفرنسي باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدوليّة والاستراتيجيّة، بمُعاداة الساميّة لأنه وَضَع كتاباً بعنوان "هل بالإمكان انتقاد إسرائيل؟"، مُقارِناً بين آرييل شارون والسياسي النمساوي يورغ هايدر الذي أثنى على النازيّة كسبيلٍ لـ "الارتقاء إلى الإنسان الأعلى".

التهمة التي وُجِّهت إلى بونيفاس انتهت بإقالته من مَوقعه كمسؤول عن القضايا الاستراتيجيّة في الحزب الاشتراكي.

الفيلسوف اليهودي الفرنسي إدغار موران مَثُلَ أمام محكمةٍ باريسيّة في العام 2004 لأنّه كَتب في "اللّوموند" مقالةً انتقدَ فيها سياسة إسرائيل حيال الفلسطينيّين..

اللّافت هنا أنّ الفلاسفة والمُفكّرين الفرنسيّين والأوروبيّين لاذوا بالصمت حيال مأساة روجيه غارودي، إلى الحدّ الذي حملَ المفكّر الفرنسي اليهودي جاك آتالي (وكان مُستشاراً لدى فرنسوا ميتران) على أن يخلع ثياب الحاخام، ليقول "كان من الأفضل ألّا يُساقوا سيراً على الأقدام إلى المقبرة".

ولكنْ ألَم يقُل الصحافي والسياسي الفرنسي جان جاك سرفان شرايبر لدى مُناقشة كتابه "التحدّي الأميركي" (1967) بالتبعيّة لكلّ ما هو أميركي، مُستخدِماً تعبير "كونسورتيوم الآلهة" على الضفّة الأخرى من الأطلسي، إنْ في السياسة أو في الاقتصاد أو في الثقافة؟

لكنّ أميركا تَشهد حالةً من الاعتراض على النيومكارثيّة. اليهودي كينيث روث رأى فيها "الوباء الذي يُزَعْزِع القرنَ الأميركي"، ليُشير إلى "أنّ موت النّخبة يعني موت أميركا كدولة تألّقت بهذا النَّوع من البشر".

روث، الأستاذ في جامعة برنستون، وكان رئيساً لـ "هيومان رايتس ووتش" بين عامَيْ 1993 و2022، حُرِم من منحة دراسيّة في جامعة هارفرد حول حقوق الإنسان بسبب انتقاد المنظّمة للتنكيل الإسرائيلي بالفلسطينيّين.

أَكَلَةُ عقول البشر

وكان على السناتور بيرني ساندرز، وهو يهودي، أن يعترض على "تدنّي المُثل في بلادنا"، ليَستعيدَ قول روجيه غارودي حول حاجة الغرب إلى "زلزال في اللّاوعي"، تارِكاً للمفكّر الأميركي اليهودي نورمان فينكلشتاين التحذير من "أَكَلَة عقول البشر"... هؤلاء "الذين يحاولون عبثاً بعْثَ المكارثيّة؛ لكنّهم لَن يعثروا عليها حتّى في جهنّم"، ولكن ها هي تُبعث بقوّة، وحتّى في أروقة الكابيتول نفسها.

غريب أنّ الرئيس جو بايدن لم يُتّهم بـ "اللّاساميّة" حين رأى أنّ السياسات الإسرائيليّة الرّاهنة تُهدِّد "مستقبل الشعب اليهودي". كلام لا سابق له في تاريخ العلاقات بين واشنطن وتلّ أبيب. بطبيعة الحال، الرئيس الأميركي استندَ في كلامه إلى تقارير الأجهزة والسفارات الأميركيّة بخصوص التحوّلات التي تحدث في الرأي العامّ العالمي، بعدما كان توماس فريدمان قد لاحَظ "أنّ الخطر الذي يُهدِّد يهود إسرائيل هو... إسرائيل".

في هذه الحال، كسؤالٍ ساذج، هل يُلاحَق بنيامين نتنياهو، وايتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش بتهمة مُعاداة الساميّة، ما داموا يُعرِّضون الوجود اليهودي للخطر؟ لماذا يُتَّهم مَن ينتقد الإسرائيليّين باللّاساميّة، ولا يُتَّهم بذلك من يقتل العرب، وهُم ساميّون أيضاً؟ هنا نستعيد تلك المُفارَقة المُثيرة. روبرت أوبنهايمر، أبو القنبلة النوويّة الأميركيّة، كان من ضحايا المكارثيّة أيضاً لكون شقيقه كان شيوعيّاً، عقّب على ذلك بالقول "ذلك اليهوذا الذي يُعلِّق أميركا على الخشبة، إنّما يُعلِّق العالَم على الخشبة".

حين ظهرتِ المكارثيّة، كانت الشيوعيّة تلك الإيديولوجيا الأبوكاليبتيّة، كما وصفها جورج كينان، صاحب نظريّة "الاحتواء"، التي تُهدّد البنية الفلسفيّة، وحتّى البنية الوجوديّة، للغرب. هل العرب كذلك؟!

أوديسّه طويلة وشاقّة ومعقّدة. صدام حضارات، تبعاً لنظريّة صمويل هنتنغتون؟ إذاً... العودة إلى زمن قايين وهابيل.

*كاتب ومُحلِّل سياسي من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية افق