تقوم اللغة الإنسانية على مفردات الانفتاح والشفافية والمرونة الاجتماعية والتسامح، وهي مهارات قيمية قابلة للتعلم، فالتربية القيمية الإنسانية الحقيقية تحيل الإنسان إلى منفتح ومتسامح، فهي على حد رؤية المفكر جون لوك تتجاوز مرحلة التعليم المدرسي ولا تنتهي إلا بانتهاء حياة الإنسان، لذلك كان الانفتاح والتسامح والشفافية والمرونة الاجتماعية إحدى المسائل المركزية في الفكر الإنساني الحديث.

ولذلك تعتقد التعاليم الصينية أن معاناة الإنسان تكمن في تلازمه وارتباطه ذهنياً بالأفكار والآراء والأشخاص وليس بالقيم والمبادئ والفضائل الإنسانية كالتسامح ومشتقاته.

ولكن كيف يتسنى لنا تأصيل هذه التربية الإنسانية، في حياتنا يكون ذلك بالانفتاح على تلك المبادئ الإنسانية.

واليوم نتساءل في أي الأولويات نضع أنفسنا فيها؟ ونضعها في أعلى سلم قيمنا، ونظل ملتزمين بها، فإذا كنا لا نملك رؤية واضحة عن أهم شيء في حياتنا نعتقده أو نقف دفاعاً عنه، فكيف لنا أن نتوقع من أنفسنا القدرة على الإحساس باحترام الذات أو القدرة على اتخاذ قرارات ذات فاعلية غير أن معظمنا يفتقر للوضوح حول ما هو أهم شيء في حياته، وهذا لا ينطبق على أولئك الذين استطاعوا أن يحددوا بوضوح المبادئ العليا في حياتهم.

فالأشخاص الذين يتمتعون بأكبر قدر من الاحترام في المجتمع هم أولئك الذين يتمسكون بقيمهم تمسكاً شديداً ولا يكتفون بالإعلان عنها فحسب بل يعيشون بموجبها؟

فحياة الإنسان هي ما تصنعه قيمه وما هو الإنتاج تلك القيم، وهو بصورة عامة الحاصل النهائي لمبادئه، إننا جميعاً نحترم أولئك الذين يقفون دفاعاً عما هم مقتنعون به، إذ إن هنالك قوة كامنة لدى الأشخاص الذين يتبعون حياة تتوافق فيها أفعالهم مع فلسفتهم في الحياة.

تجد هذه السمة النادرة عند أولئك الذين يتصفون بالاستقامة والنزاهة ومثل هؤلاء الذين نلمس لديهم توافقاً في حياتهم مع مبادئهم، لنتذكر أن قيمنا، مهما كانت هذه القيم، هي البوصلة التي تقود مسار حياتنا.

ولكن معظم الناس كما يقول أنتوني روبنز، لا يفرقون ما بين قيم الوسيلة وقيم الغاية، فالناس في كثير من الأحيان مشغولون بملاحقة قيم الوسيلة، وبذلك لا تتحقق رغباتهم الحقيقية، فقيم الغاية هي تلك التي تحقق لنا ما نصبو إليه وتجعل حياتنا ثرية وأحد أكبر التحديات التي نراها أن الناس يظلون يحددون لأنفسهم أهدافاً دون أن يعرفوا ما الذي يريدونه حقاً. لنتذكر أن قيمنا أياً كانت إنما تؤثر في توجه حياتنا، ولقد علمتنا التجارب أن عواطف معينة تمنحنا قدراً أكبر من المتعة مقارنة بغيرها، فبعض الناس مثلاً تعلموا أن الطريقة المثلى لتحصيل أكثر العواطف إمتاعاً في الحياة هي أن يكون لديهم إحساس بالآخرين. إن معرفتنا لهرم قيمنا هو أمر حاسم نظراً لأن قيمنا العليا هي التي تجلب لنا أقصى درجات السعادة وما نريده في الواقع بالطبع هو أن نضع هذه القيم في أولوياتنا.

ماذا يمكننا أن نتعلم من كل ذلك؟

أن نكون واضحين في ما يتعلق بما هو الأكثر أهمية في حياتنا وأن نقرر أن نعيش على أساس تلك القيم.

إن إحدى أكبر المشكلات التي تواجهنا اليوم هي ظاهرة القيم المؤقتة أو الأخلاق المؤقتة وذلك بقيام الأشخاص بتبديل أفكارهم حول الصواب والخطأ وفقاً للموقف الموقت أو نتيجة إغراء اللحظة.

إن أهم نقطة ينبغي لنا تأملها أننا أحياناً ننظر إلى بعض النابهين أو الناجحين أو المثاليين بالفعل على أنهم غير فاعلين ومنعزلون أو غير اجتماعيين، وأن قيمهم لا تتحكم في قراراتهم أو لا يعيشون بموجبها والحقيقة غير ذلك، فقيمهم تشكل حياتهم ويعيشونها في كل لحظة من لحظاتهم، فواقع حياتهم يؤكد أن لديهم معايير شديدة الانتقائية في فهمهم ومستوى حياتهم واختيارهم الأشياء والأشخاص الذين يشاركونهم تصوراتهم وتطلعاتهم وطموحاتهم.

ولذلك يسعون إلى تكوين علاقات ذات نوعية فائقة، ويتجنبون الهامشيين أو السلبيين الذي يحولون بينهم وبين رقي حياتهم.

لنتأمل هذه الفكرة مرة أخرى من منظور مختلف نوعاً ما. ففي دراسة للمفكر براهام ماسلو حول الأشخاص الفاعلين مكتملي الأداء، الذين يتطلعون إلى تحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم، وجد أن هنالك سمة بارزة يتقاسمونها في ما بينهم، فهم في منتهى الأمانة، صادقون مع أنفسهم وموضوعيون وواضحون في شأن مواطن قوتهم ونقاط ضعفهم، ولا يضيعون لحظة واحدة من لحظات حاضرهم في التفكير في المستقبل، فاعلون بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، يتفاعلون ببساطة مع المواقف، لديهم نوع من القبول الواعي والقدرة على الابتهاج، يسعون وراء الخبرات والتجارب الجديدة، متحررون نسبياً من آراء الآخرين، لا يشعرون بالحاجة إلى أن تنسجم الأشياء والأشخاص والمواقف مع تصوراتهم، ينظرون لأي حدث أو موقف بموضوعية، ليس لديهم مجال للكراهية، ولم يتظاهروا بأنهم أشخاص آخرون غير ما هم عليه.

ولذلك لم يكونوا مضطرين إلى السعي لكسب موافقة الآخرين في تصوراتهم وأطروحاتهم، فهم يركنون إلى أفكارهم وقراراتهم الخاصة، ولذلك لم يتأثروا باتفاق أو اختلاف الآخرين معهم.

فعندما نكون صورة مثالية للأشخاص، الذين نود أن يكونوا جزءاً من حياتنا والطريقة التي نود أن يعاملونا بها، والصورة التي يبدون عليها في أذهاننا، والصفات التي يتحلون بها، فإننا في الواقع ننتقي أشخاصاً جديرين بالإعجاب والتقدير والجدارة.

ولذلك فإنه لا يمكننا اجتذاب أناس يتصفون بصفات تخالف الصفات الإيجابية والفاعلة التي نحن عليها، ففي داخل كل منا منظومة من الأفكار والمشاعر والقيم التي تحدد لنا بوضوح الكيفية العقلية، التي نرى بها الأشخاص والأشياء والمواقف، ففي بعض الأحيان نعتقد أنه لولا هذا الشيء أو هذا الشخص أو هذا الموقف لسارت بنا الحياة على نحو مختلف.

والحقيقة غير ذلك، فقد أكدت الدراسات الاجتماعية أهمية فصل المشاعر عن المواقف للابتعاد عن الموقف عاطفياً والتعامل معه عقلياً، وإلا سنكون بالغي الحساسية تجاه الأشخاص، وسوف نأخذهم على المحمل الشخصي تماماً كما لو أن ما قيل موجه لنا عن وعي وقصد.

رغم أن الحال، بحسب رؤية المفكر تراسي، نادراً ما تكون كذلك، فالحقيقة أن معظم الناس مشغولون بأنفسهم بنسبة تصل إلى 99 % من الوقت، ويخصصون الواحد في المئة المتبقي من طاقاتهم للآخرين في هذا العالم بمن فيهم أنت وأنا.

لذلك فإن الشخص الذي يتجاوزنا في زحام المرور هو أكثر استغراقاً في أفكاره الخاصة، فهو غير مدرك لوجودنا، وسيكون من التسرع أن ينتابنا الضيق لتصرفه غير المقصود، فالحقيقة أنه ما من شخص يفكر في شأننا على الإطلاق، وهذا هو ما يحدث المعاناة السلبية لنا.

ووفقاً للمفكر الروسي أوزنبسكي، فإن السبب الرئيس للمعاناة السلبية التلازم ما بين الموقف والعاطفة.

فمعظم المآسي التي تمر بنا تأتي من جراء توحد الموقف مع العاطفة، فعندما نفصل العاطفة عن الموقف يؤدي العقل دوره موضوعياً، فنرى الأشياء بوضوح كامل.