تشكّل المساءلة عن الجرائم والانتهاكات التي شهدتها سوريا خلال سنوات الصراع تحديًا معقدًا، لكنه ضروري لضمان العدالة للضحايا، ومنع تكرار الفظائع في المستقبل. ومع سقوط نظام بشار الأسد، يُفتح الباب أمام مرحلة جديدة تتطلب معالجة إرث الانتهاكات عبر آليات قانونية وسياسية فعالة. فبينما يسعى المجتمع الدولي والمحاكم الوطنية إلى ملاحقة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تبرز أيضًا الحاجة إلى حلول داخلية تعزز المصالحة الوطنية وتؤسس لعدالة انتقالية شاملة. في هذا السياق، يصبح التساؤل ملحًا: ما هي السبل المتاحة لتحقيق المساءلة في سوريا؟ وكيف يمكن أن تسهم هذه الجهود في بناء دولة القانون والمواطنة؟

خطوة نحو العدالة

منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في مارس 2011، واجه السوريون قمعًا دمويًا من قبل النظام، الذي لجأ إلى الاعتقالات التعسفية والتعذيب والقصف العشوائي وحصار المدن. ومع تصاعد العنف، لعب المواطنون والنشطاء السوريون دورًا أساسيًا في توثيق هذه الجرائم عبر تسجيل مقاطع الفيديو والصور، لتقديم أدلة دامغة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي.


ومن أبرز هذه الأدلة ملفات قيصر، التي سرّبها منشق عن النظام عام 2013، وتضم أكثر من 53 ألف صورة توثق التعذيب الممنهج داخل السجون. كما أسهمت منظمات المجتمع المدني والحقوقية في جمع شهادات اللاجئين والمنشقين، وحفظ الوثائق الرسمية التي تكشف أوامر الاعتقال والتصفية.

خيارات المساءلة القانونية

هناك مسارات قانونية عدة قد تتيح محاسبة المسؤولين عن الجرائم الدولية في سوريا:

1 - المحكمة الجنائية الدولية (ICC):

على الرغم من أن سوريا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، يمكن لمجلس الأمن إحالة ملفها إلى المحكمة، كما حدث في قضايا أخرى مثل السودان. لكن الفيتو الروسي والصيني عرقل هذا المسار حتى الآن.

2 - المحاكم الوطنية عبر مبدأ الولاية القضائية العالمية:

تبنت بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا والسويد، مبدأ الولاية القضائية العالمية، مما يسمح بمحاكمة مجرمي الحرب بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة. بالفعل، أُدين مسؤولون سابقون في النظام السوري بجرائم ضد الإنسانية في محاكم ألمانية.

3 - المحاكم الخاصة أو المختلطة:

يمكن إنشاء محكمة خاصة لسوريا عبر الأمم المتحدة أو بالتعاون مع دول أخرى، على غرار المحاكم التي أُنشئت لرواندا ويوغوسلافيا السابقة. هذا الخيار قد يكون أكثر واقعية، لكنه يحتاج إلى توافق دولي.

4 - آليات المساءلة المدعومة من الأمم المتحدة:

أنشأت الأمم المتحدة آلية IIIM لجمع الأدلة وتحليلها استعدادًا لأي محاكمات مستقبلية، مما يُبقي باب المساءلة مفتوحًا حتى في ظل غياب محكمة مختصة حاليًا. هيئات التحقيق الأممية لعبت هيئات الأمم المتحدة دورًا محوريًا في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بسوريا، مما أسهم في دعم جهود المساءلة. فمنذ أغسطس 2011، استجاب مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لحملة القمع التي شنها نظام الأسد بإنشاء لجنة التحقيق الدولية المستقلة، التي كُلّفت بتوثيق الجرائم وتحديد المسؤولين عنها، تمهيدًا لمحاسبتهم.

توثيق الجرائم: الأدلة والنتائج

على مدى السنوات، أصدرت اللجنة تقارير دورية كشفت عن انتهاكات واسعة النطاق، من العنف الجنسي والتعذيب إلى الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري، بالإضافة إلى استخدام الحصار والتجويع كأسلوب للحرب، واستهداف المدنيين والمنشآت الحيوية، مثل المستشفيات والمدارس.

كما وثّقت مفوضية الأمم المتحدة ومنظمات مستقلة استخدام النظام السوري البراميل المتفجرة والذخائر العنقودية ضد المناطق السكنية، حيث تشير التقديرات إلى إسقاط أكثر من 68.334 برميل متفجر حتى 2017، مما أدى إلى سقوط آلاف القتلى، 97% منهم مدنيون، وربعهم من الأطفال.

الاعتقالات والإخفاء القسري

ومع تصاعد الاحتجاجات في 2011، أصدر الأسد قوائم اعتقال طالت 64.000 شخص بتهم تتعلق بـ«الفتنة والإرهاب». هذا الرقم تضاعف بمرور السنوات، حيث وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 156.457 حالة اعتقال تعسفي منذ بدء الصراع، بينهم 5.235 طفل، بينما يقدَّر عدد المختفين قسرًا بـ130.000 شخص بحلول 2023.

واستجابة لهذه الكارثة، أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة في يونيو 2023 «المؤسسة المستقلة للأشخاص المفقودين في سوريا» (IIMP)، بهدف تحديد مصير المختفين ودعم أسرهم.

جرائم الأسلحة الكيميائية

لم تعترف الحكومة السورية علنًا بامتلاكها أسلحة كيميائية، إلا أن التقارير أشارت إلى استخدامها مرارًا ضد المدنيين. ففي أغسطس 2012، حذّر الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أن استخدام الأسلحة الكيميائية سيكون «خطًا أحمر»، لكن بعد هجوم الغوطة في 2013، الذي قُتل فيه الآلاف بغاز «السارين»، لم تنفّذ واشنطن تهديدها، مما سمح لروسيا بالتدخل وإبرام اتفاق يقضي بتدمير المخزون الكيميائي السوري بحلول 2014.

لكن النظام السوري لم يلتزم، حيث وثّقت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية استمرار استخدام هذه الأسلحة، خصوصًا غاز الكلور والسارين، حتى بعد توقيع الاتفاق.

وفي 2015، أنشأت الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية آلية التحقيق المشتركة (JIM)، التي أكدت في تقاريرها مسؤولية النظام السوري عن هجمات كيميائية عدة. غير أن روسيا استخدمت الفيتو لاحقًا لإنهاء عمل هذه الآلية، في محاولة لمنع أي إدانة دولية للأسد.

مع ذلك، استمرت تحقيقات مستقلة أخرى، أكدت استخدام الأسلحة الكيميائية في 336 حادثة على الأقل، 98% منها ارتكبها النظام، وفقًا لتقرير معهد السياسة العامة العالمي في 2023.



سبل المساءلة المتاحة لسوريا:

1. العقوبات الاقتصادية والسياسية

- تشمل تجميد الأصول، وحظر السفر، وحظر التعامل مع الكيانات السورية المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان.

- قانون قيصر (2020) يفرض عقوبات واسعة على الجهات التي تتعامل مع الحكومة السورية، مما يزيد من الضغط الاقتصادي والسياسي على النظام. 2.

المساءلة الجنائية الدولية

أ. المحاكم الوطنية باستخدام الولاية القضائية العالمية

ب. المحكمة الجنائية الدولية (ICC)

ج. محكمة العدل الدولية (ICJ)

3. الآليات الخاصة

أ. الآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM)- تجمع الأدلة والشهادات حول الجرائم في سوريا، لمساعدة المحاكم الوطنية والدولية في التحقيقات والملاحقات القضائية.

ب. محكمة قائمة على المعاهدات لمحاكمة استخدام الأسلحة الكيميائية- هناك مقترحات لإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا.

4. المساءلة داخل سوريا: العدالة الانتقالية

أ. إصلاح النظام القضائي

- بعد سقوط النظام، سيكون من الضروري إنشاء محاكم متخصصة لمحاسبة المسؤولين عن الفظائع.

ب. الحقيقة والمصالحة

- على غرار جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، يمكن تبني نهج يجمع بين كشف الحقيقة والمصالحة مع العفو عن العناصر ذات المسؤوليات الدنيا.

- البحث عن المفقودين والكشف عن مصير المعتقلين سيكون جزءًا أساسيًا من جهود تحقيق العدالة.

ج. الانتخابات وإصلاح القوانين

- ضمان انتخابات حرة ونزيهة كخطوة أساسية نحو بناء دولة ديمقراطية.

- وضع تشريعات جديدة تحمي حقوق الإنسان، وتضمن حرية الإعلام، وتحفظ حقوق الأقليات.