في خطوة تعكس التوجه الإستراتيجي للمملكة نحو تعزيز هويتها الثقافية وترسيخ مكانتها عالمياً، أطلق سمو سيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان خريطة العمارة السعودية، والتي تضم 19 طرازاً معمارياً مستوحى من الخصائص الجغرافية والثقافية للمملكة. هذا المشروع ليس مجرد مبادرة عمرانية، بل جزء من رؤية أعمق تهدف إلى إعادة تعريف المشهد الحضري السعودي، وبناء هوية بصرية تعكس عمق الحضارة السعودية، وتسهم في تعزيز القوة الناعمة للمملكة على المستوى الدولي.

لطالما كانت العمارة لغة غير منطوقة تعبر عن هوية الشعوب، وهي عنصر جوهري في بناء الصورة الذهنية للدول؛ عندما يتم توظيفها بذكاء، تصبح المدن سفيرة ثقافية تعكس تاريخها وقيمها وتطلعاتها المستقبلية؛ هذه الخريطة العمرانية تضع المملكة في مصاف الدول التي استطاعت أن تحول عمرانها إلى عنصر رئيس في إستراتيجيات القوة الناعمة، حيث لا تقتصر على إحياء الطرز التقليدية، بل تقدم نموذجاً للتكامل بين الأصالة والحداثة، ما يجعلها أكثر من مجرد تصاميم معمارية، بل رسالة ثقافية تتجسد في مبانيها وأحيائها.

هذه الخطوة تأتي في توقيت بالغ الأهمية، حيث أصبح للهوية العمرانية تأثير مباشر على الجذب السياحي والاستثماري للدول. عندما يكون للمدن طابع معماري فريد يعكس شخصيتها التاريخية، فإنها تتحول إلى وجهات سياحية ذات قيمة ثقافية واقتصادية. ويُتوقع أن تسهم العمارة السعودية بأكثر من 8 مليارات ريال في الناتج المحلي الإجمالي التراكمي، بالإضافة إلى 34 ألف فرصة وظيفية مباشرة وغير مباشرة بحلول 2030، ما يعزز التنمية الاقتصادية، ويخلق فرصاً جديدة للمهندسين والمطورين المحليين؛ كما أن اعتماد المواد المحلية في البناء يقلل من الأعباء المالية على المطورين، ويحقق استدامة اقتصادية وبيئية، حيث يتم توظيف الموارد المحلية بطرق مبتكرة تحافظ على هوية كل منطقة.


استلهام التصاميم من الطبيعة والجغرافيا المحلية يعزز من تماسك المجتمعات، ويجعل المواطن أكثر ارتباطاً بالبيئة العمرانية المحيطة به، ما يسهم في تحقيق جودة حياة أفضل. فمن خلال توظيف ثلاثة أنماط رئيسة،

( التقليدي، والانتقالي، والمعاصر) تُتاح الفرصة لإبداع تصاميم جديدة تحافظ على روح المدن السعودية، مع السماح بالابتكار والتطوير. هذا النهج يعكس توازناً مدروساً بين الماضي والحاضر، ويجعل من كل مبنى جزءاً من قصة متكاملة تحكي تراث المملكة وتوجهاتها المستقبلية.

لا يمكن النظر إلى هذا المشروع بمعزل عن السياق العالمي؛ فعندما ننظر إلى تجارب دول مثل إسبانيا، واليابان، والصين، نجد أنها استطاعت جعل طرزها العمرانية جزءاً من علامتها الوطنية، بحيث أصبحت المدن هناك ليست فقط أماكن للعيش، بل وجهات معمارية لها قيمتها الثقافية والسياحية. السعودية، من خلال هذه المبادرة، تؤسس لنموذج مشابه، حيث يصبح الإرث العمراني عنصراً أساسياً في تشكيل صورتها الذهنية عالمياً، مما يجعلها أكثر حضوراً وتأثيراً في المشهد الثقافي العالمي.

هذا المشروع لا يحمي فقط الإرث المعماري للمملكة، بل يعيد تقديمه للعالم بطريقة متجددة ومستدامة، وهو ما يعكس نهج المملكة في بناء مستقبل لا يتخلى عن الماضي، بل يعيد توظيفه بأساليب حديثة تحقق التميز والاستدامة. تطوير المدن السعودية وفق هذه الموجهات التصميمية يعني أن كل زاوية، وكل واجهة، وكل ساحة، ستصبح جزءاً من رواية سعودية معمارية متكاملة، يقرأها الزائر بمجرد أن تطأ قدمه إحدى مدن المملكة.

في النهاية، نحن أمام تحول إستراتيجي يتجاوز حدود التخطيط العمراني التقليدي، ليؤسس لرؤية متكاملة تعيد تشكيل هوية المدن السعودية، وتفتح نوافذ جديدة للتواصل الثقافي مع العالمز فكما أن للفن والأدب والدبلوماسية أدواراً في رسم صورة الدول، فإن العمارة اليوم تنضم إلى أدوات القوة الناعمة، لتكون شاهداً بصرياً على تاريخ السعودية، وحاضرها، ومستقبلها.