دائما ما كنت أتساءل: لماذا لا يكتب الروائيون الكبار «الرواية التاريخية»، فأدباء كـ(دوستويفسكي وماركيز وجورج أورويل وهيمنغواي وكافكا) كانوا يكتبون لزمنهم ولأبناء عصرهم، فالرواية ابنة عصرها ولا يمكن لها أن تكون تاريخية. الروائي المبدع الذي يكتب رواية جيدة يدرك جيدا حقيقة الكتابة الروائية، ويدرك أن الرواية التاريخية ليست مجرد استبدال السيارة بالحصان أو المنزل الحديث بالخيمة والكوخ أو القصر بالقلعة، وليست استبدال المسدس بالرمح أو السيف.

الرواية ليست مجرد سلسلة بسيطة من الأحداث لها أسماء خاصة ونماذج شكلية وأزياء خاصة. الرواية عموما ليست مجرد استبدال أدوات العصر الحديث بمتعلقات الماضي. الرواية الجيدة أكبر وأشمل من مجرد استبدال عالم مادي بعالم مادي آخر. والروائي المبدع لديه تبصر عميق بالنفس البشرية، فهو لا يصور لنا عالما ماديا بل ينقل ما يختلج داخل أعماق الذات الإنسانية من هموم وآلام وتطلعات، إنه عالم نفس يملك قدرة هائلة على تعرية النفس البشرية وفضح تناقضاتها، من خلال سرد أحداث يتجاذب وسطها الخيال بالحقيقة في هجين متشابك بين الحقيقي والتخيلي.

الروائي المبدع يملك ذكاءً عاطفيا ولديه حس انفعالي هائل تجاه قضايا الناس والمجتمع، لهذا نجد شخصياته الروائية لا تخرج عن دائرة الشخصيات المهمشة في المجتمع كـ(بائعة الخبز الفقيرة والبائع المتجول والموظف البسيط في المؤسسة الحكومية)، ويصور علاقات الحب والصراع بين أفراد لا وزن لهم ولا قيمة. بعكس المؤرخ الذي يسرد قصص العظماء والقادة العسكريين وتفاصيل الأحداث المفصلية في التاريخ والحروب الدموية وحركات التمرد ذات الأثر الحاسم في تغيير دفة الصراع بين الأمم والشعوب. المؤرخ لا يهتم لبائعة الخبز وموظف الأرشيف وسائق التاكسي، فهو غير متبصر بالذات الإنسانية كالروائي المبدع الذي يدخل وسط أعماق النفس البشرية ويكشف عن أحوالها ويذهلنا بقدرته التي اكتسبها من تجاربه الطويلة مع الناس والمجتمع، على إخراج مكنوناتها للسطح كي يراها القارئ عارية دون أقنعة.


اكتسب الروائي المبدع بصيرته بالذات البشرية من تجاربه الشاقة وحواراته المطولة مع الناس، وانغماسه الوجداني في همومهم ومشاكلهم. تجربة الروائي حسية، فهو شاهد عيان على صعوبات الحياة التي يتعرضون لها ويرى بأم عينه ما يقلق نومهم، ويسمع بأذنه بكاءهم، ويلمس بيديه القوى القاهرة التي تجبرهم على الانحناء والتنازل، لذلك يكتب لعصره ولأبناء عصره، ولا يكتب رواية تاريخية تدور أحداثها في عصور المماليك أو الإغريق أو الفراعنة. إنه لا يعرف عن الرومان والفرس سوى سير القادة العظماء وتراجم الزعماء الدينيين وهزائم الجيوش الجرارة وانتصاراتها، ولا يعرف شيئا عن بائعة الخبز والظروف الاجتماعية التي عاشها المزارع البسيط، ومهما كان إلمام الكاتب بالأحداث المفصلية في التاريخ فإنه عاجز عن إيصال الشعور النفسي لشخصية تتصل بزمن مختلف عن زمانه.

الروائي يصنع عالمه وشخوصه وحواراته المتخيلة بتجربته الحسية، وهنا نطرح تساؤلا بريئا لصاحب الرواية التاريخية ومن يكتب عن سمرقند التاريخية وعصر الحشاشين والفراعنة والمماليك:

إلى أي حد كان عرضه للوقائع الماضية أمينا من الناحية النفسية في مجتمع لا تعرف عنه سوى سير القادة العسكريين وتراجم العظماء، في مجتمع لم تعش وسط بيوته وتخاطب أهله وتعايش أحداث حياتهم اليومية، وكلها عناصر ضرورية في بناء عالم الرواية الضخم بتعدد شخصياته وتوتر أحداثه؟

بكتابته عن الماضي يرغب الروائي تضمين أيديولوجيا معينة تخص عصره ويتحايل على القراء بالكتابة عن عصر قديم لا يعرف عنه شيئا، والاطلاع على كتب ومخطوطات الماضي لا تكشف لنا تاريخ الناس البسطاء الضائع والمندثر، لذلك كان عالم الرواية التاريخية مفبركا مصطنعا وغير حقيقي.