«البلاد الإفرنجية بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية وما وراء الطبيعة وأصولها وفروعها، ولبعضهم نوع من المشاركة في بعض العلوم العربية، وتوصلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها، غير أنهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق ومنج الصدق. كما أن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية والعمل بها وفي العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية مجملتها، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه وجلب ما تجهل صنعه؛ ولهذا حكم الإفرنج بأن علماء الإسلام إنما يعرفون شريعتهم ولسانهم، يعني ما يتعلق باللغة العربية، ولكن يعترفون لنا بأنا كنا أساتذتهم في سائر العلوم وتقدمنا عليهم»!
يتحدث الطهطاوي هنا بحذر شديد عن تطور الآخرين، وتخلف أبناء جلدته من العرب المسلمين، وعن ضرورة أخذهم بكل الأسباب التي تجعلهم يتوصلون إلى معرفة العلوم وفهم دقائقها وأسرارها، ويضيفون إلى «الطريق المستقيم» و«سبيل النجاة» في استقلال بلادهم، ويؤدي بهم إلى تقبل شروط الحياة الجديدة كاملة غير منقوصة. وما يحقق النبوءة التي أطلقها الأفغاني بعد ذلك.
إنها أصوات جليلة تلك التي ارتفعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لتوقظ النائمين وتنبه أشباه الموتى، وقد أدت تلك الأصوات دورها التاريخي في مجال الدعوة إلى الإحياء وفي مجال التحريض إلى النهوض الروحي والفكري، وقد أشبه الدور الذى اضطلع به الإحيائيون والنهوضيون - إذا جاز الوصف - دور رجال النهضة الأوروبية الذين دخلوا في حوار مع الماضي وتراثه المتقدم عن الحاضر لتكون العودة وسيلة لتحديد الحاضر وليس للذوبان في ذلك الماضي، أو الاكتفاء باحتذائه، وإنما ليكون القاعدة الأساس للانطلاق والتجاوز.
1980*
* شاعر وأكاديمي يمني «1937 - 2022».