مرارة توقظ البصيرة
القهوة، في جوهرها، ليست مرارة خالصة، بل اختزالٌ دقيق لتجربة الحياة نفسها؛ تلك التي تبدأ بالصدمات وتتلون بالأحزان، لكنها تُهذّب الروح وتُعلّم الصبر، كأن كل رشفة منها تقول لك: «اصبر، فكل شيء سيمر».. تشبه لسعتها تلك المواقف الأولى التي تُفاجئنا دون استعداد، لكنها تكشف لنا مع الوقت خبايا لم نكن لندركها لولاها، في فمك طعمٌ حاد، وفي قلبك يقظةٌ خفية، وفي داخلك سكون يضبط إيقاعك على نبضٍ أبطأ، أعمق.
السكر.. لطفٌ كالكلمات الطيبة
وحين تُضاف حبيبات السكر، لا يختفي مذاق القهوة، بل يتوازن، كما تفعل كلمة حنونة في وقتٍ ضائع، أو يدٌ تُربّت على كتفك وسط انهيار، السكر لا يُلغِي المرارة، بل يُعلّمك كيف تتذوقها بوعي مختلف.. يقول الشاعر نزار قباني: «الكلمة الطيبة ليست مجرد صوت، بل دواء يرمم أرواحًا لا يُرى جرحها.»، وأجمل ما في السكر أنه لا يُرى إلا إذا قُلب، لكنه حين يذوب، يترك أثرًا لا يُمحى.. فنجان القهوة كنافذة على الذات.
في لحظةٍ ما، وأنت تحدّق في خطوط البخار المتصاعد، تدرك أن فنجان القهوة لا يكتفي بإيقاظك جسديًا، بل يوقظك روحيًا، ترى في دوائره المتراقصة فكرةً هاربة، أو ذكرى كانت نائمة في زاوية من قلبك، كما كتب محمود درويش: «القهوة لا تشرب على عجل، القهوة أخت الوقت، تُحْتَسى على مهل».. تلمح في بُخار القهوة أحلامًا نسيتها، أو ربما تساؤلات مؤجلة، تصبح مرآةً لصمتك الداخلي، تضع فيها ما لا يمكنك قوله للناس، وتسحبه ببطءٍ كأنك تحاول أن تفهم نفسك، لا أن تُسكتها.
عالم من الحكايات المؤجلة
هل تأملت يومًا كم من الحكايات يحملها هذا الفنجان الصغير؟ فيه لحظة حب بدأت بارتباك عينين خلف زجاج مقهى، أو حوارٌ مؤجل مع أبٍ رحل قبل أن تُقال الكلمات، القهوة تُشبه الحنين، كما يقول جبران خليل جبران: «الحنين هو وجعٌ لا يُرى.. يُشبه رائحة القهوة، يرافقك في الغياب ويوقظك في الصمت».. لا شيء يُجيد أرشفة الذكريات مثل رائحة القهوة، فهي تحتفظ بكل شيء: بحزنٍ لم يُعلَن بفرحٍ لم يكتمل، بل حتى بفصولٍ من حياةٍ كنت فيها شخصًا آخر.
لغة لا تحتاج صوتًا
ولعلّ أعظم ما في فنجان القهوة أنه يعلّمك لغة الصمت.. أنت لا تحتاج أن تتحدث، يكفي أن تنظر إلى الفنجان لتتحدث روحك.. يقول ألبير كامو: «في القهوة وحدها، أسمع صوتي الداخلي، لا صوت الآخرين».. هناك، في قعره تسكن الإجابات التي لطالما بحثت عنها، ليس لأنها ظهرت فجأة، بل لأنك صرت أكثر استعدادًا لرؤيتها، القهوة تجعلك تصغي لصوت قلبك كما لم تفعل من قبل، وتفتح أمامك دفترًا من البوح لا يحتاج إلى ورق ولا حبر.
طقس من الطمأنينة
القهوة طقس.. لا مجرد عادة، طقس من السكون، من التمهّل، من انتشال النفس من دوامات اليوم، لحظة يُسمح فيها للعالم أن يتباطأ، وللقلب أن يتنفّس، كما تقول مقولة قديمة: «القهوة لها سبعون روحًا، وأعمقها تسكن من يحتسيها وحده»، قد تبدو للحظة ترفًا، لكنها في حقيقتها ضرورة، لأن الأرواح تحتاج لما يُعيد توازنها، والعقول تحتاج لما يهدّئ صخبها، والقلوب تحتاج لدفءٍ لا يأتي من الخارج.. بل من فنجانٍ يمسكه صاحب تأمّلٍ عميق.
رسالة في فنجان
فهل جرّبت أن تُنصت إلى حياتك عبر فم القهوة؟، أن تتذوق مرارة ماضيك وتبتسم لأنك تجاوزته؟، أن تستوعب أنّ كل ما مرّ بك كان يحتاج فقط إلى «لحظة صمت»، تنظر فيها للأشياء بعين القهوة لا بعين التسرّع؟، فنجان القهوة لا يقدّم لك نكهة فقط، بل يهمس لك: «تمهّل، هناك وقتٌ لتُدرك، لتغفر، لتبدأ من جديد».
همسة..
فنجان القهوة ليس مجرد بداية ليومٍ جديد، بل فرصة لمحادثةٍ عميقة مع نفسك، درسٌ مختصر في الحياة: «استوعب مرارتها، واسكب فوقها حبةَ سكر، ثم ارتشفها بعينِ متأمل، وقلبٍ عارف».