نحب كثيرا، لكن ننضج قليلا. فكم علاقة بدت واعدة ثم انكسرت على صخرة كلمة قاسية أو غياب تفسير؟ وكم مرة اعتقدنا أن الحب وحده كاف، فاكتشفنا لاحقا أن أكثر ما ينقصنا لم يكن الشعور، بل الأدوات النفسية لحمايته؟

في الثقافات الغربية الحديثة، يرتبط النضج العاطفي بالاستقلالية والحدود الشخصية. يعتبرون أن العلاقة الصحية هي تلك التي لا تلغى فيها الذات، بل يعاد ترتيبها إلى جوار الآخر. في كتابات مثل «Attached» و«Hold Me Tight»، تبرز نظريات التعلق أهمية وعي الفرد باحتياجاته العاطفية منذ الطفولة، لأن كثيرا من علاقات الكبار هي محاولات غير واعية لتضميد جراح قديمة. فالتعلق المفرط ليس حبا، بل خوف من الهجر. والبرود ليس قوة، بل آلية دفاع.

بينما في الثقافات الشرقية، وخصوصا بالمجتمعات العربية، يرتبط الحب بالنخوة، التضحية، والاحتواء اللا مشروط. هذه الرؤية الرومانسية، رغم دفئها، قد تفرز علاقات غير متوازنة، حيث يطلب من طرف واحد أن يداوي الآخر، دون أن يتلقى هو العناية ذاتها. يصبح الحبيب منقذا، والعلاقة ملاذا، لكنها لا تصمد كثيرا حين تنتهي مرحلة الإعجاب وتبدأ الحياة اليومية.


علم النفس يرى أن العلاقة الناضجة لا تعني غياب المشاكل، بل وجود وعي يكفي لاحتواء تلك المشاكل دون تحولها إلى صراعات هوية. فالعلاقات لا تنهار بسبب الخلافات، بل بسبب غياب القدرة على الإصغاء دون حكم، والتفاهم دون نفي الآخر.

الناس عموما يفرون من النضج العاطفي لأنه يتطلب شجاعة. أن تعترف بأخطائك، أن تكشف هشاشتك، أن تسأل عندما لا تفهم بدل أن تفترض الأسوأ. نحن نميل إلى رد الفعل بدل الفهم، إلى الغضب بدل التوضيح، إلى الانسحاب بدل المواجهة الهادئة.

المشكلة أيضا أننا نخلط بين الحب والامتلاك، بين العطاء والتضحية بالنفس، بين التقدير والخوف من الخسارة. وفي خضم كل ذلك، ننسى أن الشخص الناضج لا يبحث عن نصفه الآخر، بل يختار أن يكتمل مع آخر مكتمل، دون أن يلغيه أو يلغى.

في اليابان مثلا، توجد فلسفة «الـAmae»، وهي تصف الرغبة الطفولية في الاعتماد على الآخر بشكل مريح دون خجل. هذه الرغبة، إذا أُسيء فهمها، تتحول إلى اعتماد عاطفي خانق. وفي المقابل، تجد في الدول الإسكندنافية تركيزا كبيرا على المساحة الشخصية لدرجة قد تجعل العلاقات تفتقر للدفء. النضج إذا، هو التوازن، لا ذوبان كامل ولا انعزال صارم.

في النهاية، نفشل في بناء علاقات ناضجة لأننا لم نتعلم كيف نكون صادقين مع أنفسنا أولا. لم نرب على التعبير الصحي، ولا على الاستماع دون مقاطعة، ولا على اختيار من يشبهنا داخليا لا خارجيا. نريد علاقة خالية من الألم، لكنها مستحيلة دون أن نمر أولا عبر مرآة الذات.

النضج في الحب ليس في «كم نحب، بل كيف نحب». فالعاطفة وحدها تشعل البداية، لكن النضج فقط هو ما يصون الاستمرار.