«الفنون»، وكان التاريخ الذي عليه (نيسان - 1913). أما منشئ المجلة فرفيقي في الناصرة نسيب عريضة، بشراكة رجل آخر لا أعرفه.
ما هذا الذي اعتراني عندما فتحت العدد؟ إن عيني تسابق يدي في تقليب صفحاته وتلتهم ما فيها التهاما. وقلبي يصفق فرحا بين ضلوعي.
ههنا فتح جديد ودنيا جديدة. ههنا حروف تنبض حياة. والعجيب أنها حروف عربية.
وعهدي بالحروف العربية أن عناكب الجمود والتقليد والنفاق والطاقة الفكرية والروحية قد نسجت فوقها أكفانا، وأن غبار خمسة قرون قد تكدست على تلك الأكفان. سبحان من يحيي العظام وهي رميم!
أول ما طالعني من بعد الفهرس في ذلك العدد الجميل المظهر والتنسيق رسم لجبران خليل جبران.
وأنتقل من الرسم إلى المقال الافتتاحي الذي يليه، فإذا به من قلم جبران وعنوانه «أيها الليل»:
فيطربني منه أنه قلم يعرف قيمة الحروف، فلا يمتهنها. ويعرف جمال اللون، والرنة، والمعنى في الكلمة فلا يفحش بها. ويعرف أن للقلب أوتاره، وللفكر أوتاره. وهذه ما لم تكن موقعة أحسن التوقيع، وبيد فنان مخلص لفنه، كان كل ما يصدر عنها نشازا في نشاز.
ثم أنتقل من مقال جبران إلى قصيدة بعنوان (أماني) من قلم أليف. وأجزم في الحال أن «أليف» ليس أكثر من اسم مستعار يستر وراءه رفيقي نسيب عريضة. فأنا أعرف نفسه، وأعرف أن هذا اللون من الشعر قد اقتبسه نسيب من مطالعاته الروسية. وها هو العدد كله يشهد بذلك، فقد حشاه صاحب (الفنون ) بترجمات من الشعراء والكتاب الروس - وعلى الأخص المحدثين منهم أمثال (غوركي) و(سولوغوب) و (مرجكوفسكي) وغيرهم من كتاب الغرب مثل (أوسكار وايلد) و (فيكتور هيجو).
ومقال آخر يستوقفني في ذلك العدد، وعنوانه «بلبل الموت والحياة» وهو بقلم أمين الريحاني:
«في القفص يغرد البلبل وفي الأودية تولول الرياح»... لا. لا. لست في حلم يا ميشا. فهذه النفحات التي هبت عليك من (فنون) رفيقك نسيب عريضة لم تنطلق من خيالك ومن رغبتك الملحاح، في أن تجدد العربية شبابها. إنها لحقيقة راهنة، وإنها البشارة لك بالانبعاث الذي رحت تترجاه لبني قومك منذ أن أطللت على الأدب الروسي والآداب العالمية، وأدركت قدسية الكلمة، وقوة القلم إذا هو لم يدنس الكلمة بالكذب والرياء والتدجيل، ولم يعبد الحرف دون الروح. بلى بلى. هذا أول الغيث يا ميشا - قطرة ثم يهمي، وهذه القطرة تتحداك يا ميشا. فهل لديك قطرات تضيفها إليها؟ إذا كنت تريد أن يكون لك نصيب في الغيث الآني فهذه الساعة هي ساعتك. وهذا اليوم هو يومك.
ورحت أدبج مقالا مستفيضا بعنوان «فجر الأمل بعد ليل اليأس» فأنفث فيه كل ما في صدري من نقمة وحقد على الأدب المحنط - أدب التنميق والتقليد والتدجيل - أدب المجاهلات والمناسبات والبهلوانيات - أدب القشور لا غذاء فيها لأي عقل وقلب، ولا صلة رحم بينه وبين حياة نحياها. في كل يوم كنت أكتب وبودي لو يتحول القلم في يدي بركانا، ولو تخرج الكلمات من بين شقيه حمما تجرف وتحرق كل بال ودميم ومخاتل في آدابنا، لعل أن تنهض لنا أقلام جديدة تقيم وزنا للصدق والجمال وباقي القيم الإنسانية الرفيعة.
1922*
* كاتب وأديب لبناني «1889 - 1988».