وما سيقال أدناه ليس إلا نموذجاً متواضعاً من روعة هذا الكتاب؛ نموذجاً يكشف جانباً واحداً من مساحات أوسع، ويفتح نافذة صغيرة على عمقٍ يتكشّف أكثر كلما تقدّم القارئ في صفحاته.
بين «إذن» و«إذا»
يورد الدكتور عبدالله الخطيب في الفصل المعنون بـ الفرق «بين (إذن) و(إذا) «ضمن كتابه»في تشكلات الذات ورفض مانحي الدروس (تقرير فكري)» نصا يصف فيه لحظة فهمه سبب وضع أستاذه برنارد قارده دائرة حول كلمة «إذن»:
«وقع هذا الجواب (الدرس) كبيراً جداً في نفسي. فهمت منه ما فهمت في تلك اللحظة، وفي لحظات كثيرة بعد ذلك الموقف، امتدت لوقت ليس بالقصير لكيلا أقول لسنوات». وبرر بعد ذلك هذه الاحتفالية بما فهمه بـ«فهمت خطورة أن يتأسّس (بالكامل) الإنسان على خطابات (إذاً) اليقينية، ولا ينعم بدور ومكانة وجماليات (إذا) الشرطية وما يحيط بها من شكوكية تعلي من قيم الفرضيات والتحقق».
وبنظرة أكثر عمقا يمكننا القول إن دائرة قاردة حول كلمة «إذن» تظهر بوصفها لحظة كشف لحدود الفكر عندما يتورّط في منطق النتائج المسبقة. فـ «إذن» ليست مجرد أداة ربط لغوي، بل إعلانٌ ضمني عن حسمٍ معرفيّ، إغلاق لدائرة التفكير، ووضع حدّ لما ما زال ينبغي أن يظل مفتوحاً. إنها أداة تجعل كاتب النص في موضع من يعرف، من يحسم، من يقرّر، ومن يعلن النتيجة قبل اكتمال شروطها. ولهذا بدت الكلمة، في عين قاردة، منزلقاً إلى خطاب يدّعي الاكتمال، ويُقصي كلّ ما هو محتمل أو قيد التشكل.
غواية «إذن»
تمتلك غواية «إذن» سحراً خفياً يلتبس على العقل فيستدرجه إلى الطريق الأقصر ظاهرياً، والأكثر خداعاً في العمق. فالنتيجة تشبه وعداً سريعاً بالطمأنينة، بوابةٌ مغلقة تريح الذهن لأنها تضع حداً للأسئلة، وتسمح للنص أو الفكرة بأن تُحكم وتُقفل.
غواية «إذن» تخلق وهماً بالوضوح، لكنها تلغي أكثر ما تحتاجه المعرفة: اللايقين والريبة، تلك المساحة التي تتحرك فيها الفرضيات، وتتعدد فيها القراءات، ويظل فيها المعنى قابلاً للمراجعة وإعادة البناء.
كيف تخاتلنا «إذن»
حين يستعرض النص أحداثاً أو تجارب، يبقى القارئ في فضاء الحركة والاحتمال والسرد. لكن بمجرد ظهور «إذن»، ينقلب الفضاء إلى قرار وطمأنينة ونتيجة مغلقة ويتحول النص لخطاب ينطوي على سلطة كامنة تُخفي جذورها خلف بساطتها اللغوية. فحين تتسرّب «إذن» إلى خطابٍ فإنها لا تأتي بوصفها مجرّد رابط منطقي، بل كختم نهائي يُحيل ما قبلها إلى ضرورة، ويُحوّل ما بعدها إلى قدر.
ذلك لأن «إذن» في هذه السياقات لا تعمل كأداة استنتاج، بل كأداة إلزام، وكأنها تنقل القائل من فضاء السؤال إلى فضاء الحكم، ومن احتمالية المعنى إلى جبرية المعنى. إنها تُخفي ما تسوّغه خلفها، وتقدّم النتيجة وكأنها قدراً محتوماً.
المخاتلة: الصحوة نموذجا
يورد الدكتور عبد الله في مقدمة كتابه «تشكلات الذات ورفض مانحي الدروس» هذا النص:
«غادرتُ السعودية في لحظة تاريخية وإنسانية محيِّرة للغاية. كان ذلك منتصف 1995م. وصلتُ إلى فرنسا محمَّلاً بما لا يتصوَّره الجيل الحالي من أجوبة (مقولبة) على مستوى الخطاب الديني. كنَّا ملزمين بتلقِّيها كما هي، على أنها الحقيقة المطلقة. إنني أنتمي إلى جيل الأجوبة المفروضة. جيل الأجوبة دون أسئلتها. حاول الفكر الديني المتشدد أو ما يسمى بـ(الصحوة) القذف به خارج فضاء الاختلاف، وكل ما يذكّر به، ونبذ كل من يدعو إليه. في تلك الأيام الدعوة إلى خيار الاختلاف وتبنّي ما يخالف الرأي السائد مجلبة -غالباً - للتصفية الفكرية والاجتماعية. انحراف (الصحوة) هو -أولاً- انحراف عن الاختلاف بوصفه فضيلة. كانت غاية خطابها توجيه المجتمع فقهياً نحو الفهم الواحد».
يبدو هذا النص، للوهلة الأولى، شكوى واضحة من ضيق الأفق الذي فرضته «الصحوة» على جيلٍ كامل، لكنه في العمق يكشف مفارقة لافتة: فالدكتور عبد الله الخطيب نفسه يصف تجربته بعباراتٍ تؤكد أنه نجا من الوقوع كضحية «إذن» بوصفها منطقاً للنتيجة المغلقة.
فهو يقول إنه جاء من جيل «الأجوبة المفروضة»، جيلٍ تعلّم الحقيقة قبل السؤال، والنتيجة قبل الفرضية، واليقين قبل الاحتمال. وهذه الصياغة ذاتها هي تعبير عن سيطرة منطق «إذن» في وعيه الأول: إذا كانت الصحوة تقدّم خطابها بوصفه حقاً مطلقا وكان المجتمع لا يسمح بالخلاف ولا خيار إلا الانخراط في الفهم الواحد، أو الصمت أمام سلطة الجماعة.
لقد كان تحت سلطة «إذن» قبل أن يكتشفها من خلال دائرة قاردة، كان تحت سلطة «إذن» تُغلق المسار، وتُسكت السؤال، وتحوّل الفكرة إلى يقين اجتماعي وديني لا يُناقش. «إذن» خفية تُعيد صياغة الوعي بحيث يتكلم من داخل النتيجة حتى وهو يعترض عليها.
«التقرير» والمخاتلة
تحمل خاتمة عنوان الكتاب بين قوسين عبارة «تقرير فكري» وجذر كلمة «تقرير» في المعاجم يرتبط بالقرار والثبوت والسكينة. هذه الدلالة اللغوية تفضي إلى وظيفة تلغي القلق والريبة وبالتالي تُلغي الاحتمال أو تقلّص مجاله، وتحوّل الممكن والمحتمل إلى حقيقة لا تناقش. فهو ليس مجرّد تسمية معنوية، بل آلية خطاب تدفع المتلقي لرؤية المتحرك باعتباره ساكناً.
فكلمة تقرير توحي بأن الكاتب يتعامل مع تجربته السابقة كما لو كان منفصلاً عنها، ينظر إليها من خارج نفسه، وكأنها واقعة منجزة يمكن تثبيتها وإغلاق باب تأويلها. فحين يقول الكاتب إن لديه «تقريرًا فكريًا» عن تجربة صنعت وعيه، فهو يضع نفسه في موقع من يصف من الخارج، لا من يعيش التحوّل من الداخل.
التقرير بطبيعته يقوم على:
– المسافة
– التثبيت
– الحسم
– تقديم الوقائع ككيانات مكتملة
لكن التجربة الذاتية لا تُختزل في «وقائع»، بل هي مسارٌ مستمرّ لا ينفصل عن صاحبه. ولعلي أكون أكثر وضوحا عندما أقول إننا إذا نظرنا لتجاربنا السابقة فسنرى ما لم نكن نراه ونحن نعيش هذه التجربة بل وأكثر من ذلك إننا لو عدنا لكتابتها مرة أخرى سنرى ما لم نكن نراه عندما كتبناها أول، مرة لأننا ببساط تحت سطوة صيرورة وعي وتناص مستمر مع أنفسنا.
وبذلك قد نصل لحقيقة أن لا تقرير فكري يمكن أن يكتب بل كل ما نكتبه عن الفكر مجرد محاولات لحصاره نعلم أننا سنفشل فيها لأنها تسبح في صيرورة متناهية الصغر زمنيا لا نهائية في الاستمرار.
وباختصار هنا قد نلمح آثر «إذن» ولا نراه!!
طبيعة «إذن»!
«إذن»، في مخاتلتها العميقة، ليست كلمة ولا أداة لغوية فقط، بل بنية خفية تتحرك في الخطاب بوجوه متعددة، وتعمل في الوعي على مستوى أعمق مما يدركه المتكلّم أو السامع. هي آلية، لا مفردة؛ وشكل من أشكال السلطة المعرفية التي تتلوّن بحسب السياق، وتغيّر موقعها وفقًا لموضع القائل والمخاطَب.
في مثال «الصحوة»، يستقبلها الكاتبُ بوصفها وجهًا قاهرًا: إذ تُقال من الآخرين إليه لتسكين السؤال، وإغلاق الاحتمال، واستبدال الشكّ باليقين المسبَق. هنا تعمل «إذن» كقوة خارجية تفرض نفسها على الذهن:
هذا هو الوجه الأول: وجه الاستقبال السلطوي. إنه الوجه الذي يُمارس على الذات، وجه نازل من علٍ، لا يسمح للذات بالاشتباك الحرّ مع العالم.
لكن حين يكتب الكاتب نفسه ويستعمل مفردة «تقرير»، فإنه يفعّل الوجه الآخر من «إذن»:
وجه الإرسال، لا الاستقبال.
وجه التثبيت، لا الانصياع.
وجه القول القاطع، لا التلقّي.
هنا تتحوّل «إذن» من قيدٍ مفروض على الذات إلى أداةٍ تمارس بها الذات السلطة على تجربتها.
ومفردة «تقرير» ليست إلا القناع الهادئ لـ«إذن» المتخفية: فهي لا تقول «إذن» لفظًا، لكنها تمارس وظيفتها—تعلن نهاية ما يجب أن يبقى مفتوحًا، وتحوّل التجربة الحيّة إلى معنى منتهٍ، وتُلبس الماضي طابعًا مكتملًا لا يناسب طبيعته المتكسّرة.
خطأ قاردة
عندما وضع قارده دائرة على «إذن»، كان يلفت نظر الدكتور عبد الله الخطيب إلى أن الكلمة—بوصفها رابطاً استنتاجياً—قد تُستخدم لإلغاء الاحتمالات، ولإقفال مسار التأويل عند نتيجة واحدة. كان يشير إلى لفظ «إذن» التي تحوّل الممكن إلى لازم، والفرضية إلى حتمية.
لكن ما كان مجرّد تنبيه لغوي، يتّضح لاحقاً أنه أعمق من المفردة نفسها. فالإلغاء لا يسكن كلمة «إذن» وحدها؛ بل يسكن كل خطاب يسعى لنفي غيره وإحلال ذاته محلّ البدائل. وهنا ندخل في مستوى الخطاب لا في مستوى اللفظ.
فـ«إذن» ليست الماهية التي تلغي الاحتمالات، بل أحد أوجه الطاقة الإقصائية المتولّدة حين يتصرّف خطابٌ ما باعتباره مركز الحقيقة، ويجرّد الخطابات الأخرى من شرعية السؤال. إنها تجلٍّ لغوي لطاقة أكبر تسكن البنية الخطابية نفسها: طاقة النظام الذي يريد أن يكون مغلقاً، مكتملاً، مكتفياً بذاته. وهكذا، فإن قدرة «إذن» على الإلغاء ليست خاصية في الكلمة، بل انعكاسٌ لخاصية في الخطاب نفسه.
كيف يمكننا مقاومة «إذن»
في اللحظة التي تُحاول فيها «إذن» أن تختم التفكير بخاتمتها، وأن تدفع المتلقي إلى قبول «نعم» جاهزة، يظهر معنى العبارة التي افتتح بها الفيلسوف الفرنسي إميل شارتييه (ألان) جدله القديم: أن تفكّر، أن تقول لا. ليست «لا» هنا موقفاً عدميّاً أو نزقاً ذهنياً، بل فعل مقاومة للانغلاق، ورفضاً لإخضاع العقل لمنطق النتيجة المفروضة.
فـ«إذن» تعمل دائماً على تحويل السؤال إلى الإجابة، والاحتمال إلى القطع، والتعدد إلى الوحدة. أما «لا» التي يقترحها الفيلسوف الفرنسي إميل شارتييه (ألان) فتحول النتيجة إلى الشك والحكم إلى التساؤل والسكون إلى الحركة.
عندما نقول «لا»، فنحن لا نرفض المعنى بقدر ما نرفض إنهاءه. نرفض أن يُقدَّم إلينا كحقيقة مكتملة. نرفض أن يُملى علينا مسار التأويل. نرفض أن نصير مجرّد متلقّين في خطاب يرى نفسه مركزاً للمعنى.
«لا» هنا تفعل ما لا تستطيع فعله أي أداة أخرى تعيد فتح الإمكان وتكسر هيمنة النتيجة وتعيد العقل إلى نقطة البدء حيث السؤال هو الأصل لا الاستنتاج.
إن مقاومة «إذن» التي تريد أن تُلبس المتلقي ثوب «نعم» ليست حركة تدمير، بل حركة تحرير: تحرير للغة من سلطتها المضمرة، وللمعرفة من يقينها المريح، وللذات من خضوعها للمُنجَز الذي يُراد لها أن تقبله دون حساب.
حين نسأل: هل هذه النتيجة حتمية؟،هل هذا المعنى الوحيد؟، هل يمكن قراءة ما سبق بطريقة أخرى؟، عندها تكون «لا» قد أدّت وظيفتها المعرفية. لقد أعادتنا إلى فضاء الاحتمال، ومنحت النص حقّ الحياة الذي كانت «إذن» تحاول أن تصادره.