منذ صدور كتابه الشهير «الاستشراق» في العام 1978، بدا إدوارد سعيد وكأنّه دشَّن لحظةً فاصلة في التفكير النقديّ بالعلاقة بين المعرفة والقوّة، بين التمثيل والهيْمَنة، بين الشرق والغرب في المخيّلة الاستعماريّة. لم يَعُد مُمكنًا النَّظر إلى الكتاب بوصفه مجرّد دراسة في تاريخ الأفكار، بل صارَ نصًّا مؤسِّسًا لمرحلةٍ جديدة في نقْدِ الخطاب الغربيّ، ومرجعًا أَلْهَمَ أجيالًا من البحّاثة في الأدب والسياسة والأنثروبولوجيا والتاريخ.

مع ذلك، وبَعد أربعة عقود من تأثيره الصاخب، لم يَهدأ الجدل حوله. بل إنّ النقد الذي وُجِّه لإدوارد سعيد لم يأتِ من خصومه المُعلَنين في الجامعات الغربيّة فقط، وإنّما أيضًا من داخل الحقول التي فَتحها هو نفسه، ومن بحّاثة يَنتمون إلى البيئات الثقافيّة التي أراد الدّفاع عنها.

من ضمن هذا الأُفق، بَرَزَ اليوم اسمان على نحوٍ خاصّ: وائل حلّاق في كتابه «قصور الاستشراق» (ترجمة عمرو عثمان، 2019)، وهنري لورنس في كتابه «التاريخ المفروض» (ترجمة جان جبّور، 2025). كلاهما قَرأ سعيد بتأنٍّ، لكنّهما لم يتردّدا في وضْعِ مشروعه على طاولة المُحاكَمة الفكريّة: حلّاق انطلاقًا من مُساءلة خطاب الحداثة وموقع سعيد ضمنها، ولورنس من منظور المؤرِّخ القادر على تتبُّع تداخُل السرديّات السياسيّة والمعرفيّة. هكذا عادَ النقاش حول الاستشراق، لا في صيغة الردّ على أطروحات الغرب فحسب، بل في تفكيك خطاب النقد ذاته: هل ما قدّمه سعيد كان تفكيكًا جذريًّا أم إعادة إنتاج غَير مُعلَنة لأُطر التفكير الغربي الحداثي؟


أوّلًا- وائل حلّاق: نقد من الداخل

ينطلق وائل حلّاق من موقعٍ فكريّ مُتماسك يُعيد مساءلة الحداثةَ الغربيّةَ ومفاهيمها المُتداوَلة، سواء في القانون أم في المعرفة أم في السلطة. في كتابه «قصور الاستشراق»، لا يَكتفي حلّاق بتفكيك أطروحة الاستشراق بوصفها خطابًا مُهيْمِنًا كما قدَّمها سعيد، بل يَذهب أبعد ليُسائل الخلفيّة الفلسفيّة التي تَسند هذه المُقارَبة. يرى حلّاق أنّ سعيد، بالرّغم من جرأته الفكريّة، ظلَّ أسيرَ الأنموذج الغربي ذاته الذي أراد فضْحَه؛ فهو استخدَم أدواتٍ تحليليّة ذات مرجعيّة حداثيّة ليُواجِه بنية الاستشراق، من دون أن يَقترح بديلًا معرفيًّا أو إبستمولوجيًّا يَمنح النقدَ قوّةً تأسيسيّةً جديدة.

وفي قراءته، فإنّ مأزق سعيد يتجلّى في مستوياتٍ عدّة: أنّه عمَّم صورةَ الاستشراق من دون تفكيكٍ داخلي للمدارس والتيّارات. كما رَبَط الخطابَ الاستشراقي بالإمبرياليّة ربطًا حادًّا لا يُراعي استقلالَ الحقول المعرفيّة. هذا بالإضافة إلى أنّه لم يَتناول المعرفة الإسلاميّة أو الشرقيّة من داخل منطقها الخاصّ، بل من موقعٍ نقديّ مشدود إلى المركزيّة الغربيّة. وهو في نهاية المطاف، لم يَطرح أُفقًا معرفيًّا مضادًّا أو مشروعًا تبديليًّا يَتجاوز الاستشراق بدلَ الاكتفاء بإدانته. حلّاق هنا لا «ينقض» سعيد من خارج التجربة، بل يُحمّله مسؤوليّة عدم الذهاب بالقطيعة إلى مَداها. فالنقد عنده ليس تصحيحًا للمَسار فقط، بل تفتيتًا للمرجعيّة التي سَمحت بظهور الاستشراق، بما في ذلك اللّغة الأكاديميّة والمؤسّسات والأنساق التي ينتمي إليها سعيد من حيث لا يَشعر.هكذا يؤكِّد حلّاق أنّ الحداثةَ الغربيّة ليست مجرّد أدوات تحليليّة أو سياقًا تاريخيًّا، بل نسق كلّي يُعيد تنظيم الإنسان والمعنى والسلطة والقيَم. بناءً عليه، فإنّ أيّ نقدٍ يُصاغ بلغتها يظلّ خاضعًا لمنطقها الداخلي مهما بدا جذريًّا. ومن ثمّ، فإنّ إشكاليّة سعيد - وفقَ هذا التقدير - لا تكمن في قصور الأطروحة فحسب، بل في انخراطها في المرجعيّة نفسها التي تُنتِج الاستشراق وتُعيد إنتاجه. وهكذا، يَجعل حلّاق من نقدِ سعيد مُناسبةً لإبراز أنّ مُساءَلة الاستشراق لا تَكتمل إلّا بتفكيك البنية المعرفيّة الحداثيّة التي شكَّلته، لا بالاكتفاء بتفنيد تمثيلاته أو رصْدِ وظيفته الإمبرياليّة.

ثانيًا- هنري لورنس:

نقد المؤرِّخ من موقعِ مُراقِبيأتي هنري لورنس من خلفيّة مُختلفة تماماً. فهو مؤرِّخ فرنسي مُختصّ في تاريخ العالَم العربي والاستشراق الأوروبي، عاشَ داخل المؤسّسات الأكاديميّة التي يُناقشها سعيد. في الفصل الرّابع من كتابه «التاريخ المفروض» يتعرَّض لكتاب «الاستشراق» بنهجٍ لا يخلو من الحدّة، يَرتكز على ما يُسمّيه «ضرورة التدقيق في الوقائع والمفاهيم». ملاحظاته على سعيد ليست إبستمولوجيّة، بل تاريخيّة ومنهجيّة، وهو لا يُهاجم سعيد كـ «حداثيّ»، بل ككاتبٍ اعتمدَ قراءةً خطابيّة مؤدلجة للتاريخ.

يرى لورنس أنّ سعيد وقعَ في أخطاءٍ منهجيّة واضحة، أبرزها: تعميمه صورة المُستشرِق بوصفه أداةً للهيْمَنة، من دون التمييز بين الأنماط والحقب والأهداف؛ ودمْجه الأدب بالأنثروبولوجيا وبالتاريخ في سلّةٍ واحدة، وكأنّ كل كتابة عن الشرق خاضعة لمنطقٍ واحد. هذا بالإضافة إلى استخدامه أفكار ميشال فوكو عن الخطاب والمعرفة من دون ضوابط تاريخيّة، وتجاهله علماء وباحثين لم يكونوا جزءًا من المشروع الاستعماري، وبعضهم كان مُناهِضًا له. وفي النهاية اعتماده نماذج نصّيّة محدودة لتعميم صورة شاملة عن الغرب.

هكذا يرى لورنس أنّ سعيد أَسقط على قرونٍ من النّتاج المعرفي الغربي تصوُّرًا موحَّدًا عن الاستشراق، فجَعل منه خطابًا متجانسًا تتحكّم فيه السلطة. هذا التعميم يُهمِل تعقيد السياقات التاريخيّة وتبايُن المدارس والمُقاربات والمصالح. فليست كلّ الكتابات الاستشراقيّة أداة استعماريّة صريحة، ولا يُمكن جمْع مفكّر بحجْم «سلفستر دو ساسي» مع رحّالة أو موظّف إداري في الإدارة الكولونياليّة تحت تسميةٍ واحدة. من هنا يَقترح لورنس مُقارَبةً تقوم على قراءة الاستشراق كتاريخٍ طويلٍ من الاحتكاك، فيه التبادُل كما فيه الهيْمَنة، وفيه المعرفة كما فيه التوظيف السياسي. فسعيد، في رأيه، يُذيب هذا التعقيد لحساب رؤيةٍ شموليّة تُحمِّل الخطابَ أكثر ممّا يَحتمل، وهو يتّهمه بتوظيف مصادره لإثبات فرضيّاته أكثر من توظيفها لفهْم الواقع، فيَنزلق من النقد إلى الإدانة الأيديولوجيّة. لكنّه، بخلاف بعض المُدافعين التقليديّين، لا يَنفي الأثرَ الاستعماري للمعرفة، بل يسعى إلى تفكيك الأسطورة المؤسِّسة لصورة الاستشراق كحقلٍ واحدٍ لا فوارق داخله. تقاطُعات واختلافات بين النقدَيْنيلتقي الناقدان، على اختلاف منطلقهما، في نقطةٍ واحدة: سعيد ليس فوق النقد. لكنّهما يَفترقان في الهدف. حلّاق يَرى أنّ سعيد لم يذهب بعيدًا بما يكفي في نقْد الحداثة، بينما يرى لورنس أنّه ذَهب بعيدًا أكثر ممّا يلزم في التعميم على التاريخ. الأوّل يتّهمه بأنّه حداثي من الداخل، والثاني يراه مثقّفًا مؤدلَجًا يَفتقد للدقّة التاريخيّة. عند حلّاق، خطيئة سعيد أنّه لم يَستأصل الجذور الأنطولوجيّة للمعرفة الغربيّة. عند لورنس، خطيئته أنّه اقتَلع الظاهرة من تاريخها ووحَّدها قسرا باسم نظريّةٍ جاهزة.

هل هذا تحامُلٌ أم تصويب؟ حلّاق، وإن بَدا عادلًا في منهجه، يُحمِّل سعيد مسؤوليَّةَ مشروعٍ لم يدّعِ أصلًا أنّه يقوم به. فهو لم يُقدِّم نفسه ناقدًا للحداثة، بل ناقدًا لتمثيل الشرق في الخطاب الغربي. ما يَطلبه حلّاق منه هو دَور لم يَطمح إليه أو لم يُرِد الخوض فيه. بعبارةٍ أخرى، نقد حلّاق لسعيد يَنطلق من أُفقٍ مُختلف لا من داخل الكتاب نفسه.

أمّا لورنس، فتأخذه الحرفيّة التاريخيّة إلى حدّ اتّهام سعيد بالتعميم لأنّه وَضَعَ الاستشراقَ ضمن خطابٍ سلطوي، مع أنّ سعيد أَشار إلى اختلاف الأفراد والتيّارات، لكنّه اعتبرَ أنّ الهيْمَنةَ تنتصر على الاستثناء. في المُقارَنة بين الرجلَيْن، يبدو حلّاق أقرب إلى تفكيك سعيد بوصفه جزءًا من الأزمة، بينما لورنس يُحاكِم سعيد بوصفه باحثًا مُتجاوزًا حدود اختصاصه. حلّاق يَنتقد المرجعيّة، لورنس ينتقد المَنهج. الأوّل يَتّهم سعيد بأنّه استبقى الحداثة وصدَّقَها، والثاني يتّهمه بأنّه شوَّهَ المعرفةَ بإخضاعها لأنموذجٍ تفسيريّ أحاديّ. ومع ذلك، كلاهما ينتهي إلى نتيجةٍ غير مُعلَنة: كتاب الاستشراق أًحْدَثَ أثَرًا، لكنّه ليس نصًّا مُقدَّسًا ولا عصيًّا على التفكيك.

ما الذي يبقى بَعد النقدَيْن؟ لا يُمكن القول إنّ سعيد قد سَقط، لكن لا يُمكن ترْكُه في منصّة المعصوميّة أيضًا. كتابه لم يَعُد المكان الذي وُلد فيه الخطابُ ما بعد الكولونيالي بل صارَ مادّةً لإعادة فحْص المسلّمات. أَسهمَ حلّاق في كشْفِ أنّ نقْد الاستشراق لا يَكتمل من دون نقْد الحداثة نفسها، وكَشَفَ لورنس أنّ الخطاب لا يُختزَل في الأدلجة من دون تفصيل التاريخ. بهذا المعنى، قد يكون النقدان - على شدّتهما - استكمالًا لمَسارٍ لم ينتهِ لا سجالًا مع سعيد بل انطلاقًا منه.

النقد الذي يُبقي السؤالَ حيًّا

ثمّة سؤالٌ أساسي لا يزال مطروحاً: ماذا يبقى من «الاستشراق» بَعد هذه الهجمات المعرفيّة المركّبة؟ هل ماتَ الكتاب كمرجعيّةٍ كبرى أم أنّه عادَ إلى الحياة بصيغةٍ جديدة؟ لا يُمكن الجزْم بسهولة. لكنْ يُمكن القول إنّ ما كَشفه سعيد لم يَعُد قابلًا للنسيان: أنّ الخطاب ليس بريئًا، وأنّ صورةَ الشرق كانت دومًا جزءًا من مشروعٍ سياسي؛ أي أنّ ما فَعله هو نقْل الاستشراق من كونه حَقلًا أكاديميًّا إلى كونه قضيّة فكريّة وسياسيّة كبرى. حلّاق أَضاف إلى ذلك أنّ نقد الاستشراق لا يَكتمل إذا لم يَشمل نقْدَ الأنموذج الحداثي الذي يُنتجه. ولورنس نبَّهَ إلى أنَّ هذا الأنموذج ذاته متعدّد ومُتباين، وأنّ أيّ قراءة له يجب أن تَعترف بتعقيده التاريخي.

في المحصّلة، يبدو أنّ «مقصلة» حلّاق و«عدسة» لورنس لا تُعدمان سعيد بقدر ما تُجبرانه على التكلُّم من جديد. هنا بالضبط يُستعاد معنى الجَدَل: ليس الهدْم ولا التقديس، بل المُراجَعة النقديّة التي تُبقي السؤالَ حيًّا. فَما طَرَحَهُ سعيد لم يكُن نهاية التفكير في الاستشراق بل بدايته الحقيقيّة، وما يقوله ناقدوه يؤكِّد - من حيث لا يقصدون - أنّ النصَّ المؤسِّس لا يزال يُنتِج أثرَه. ولو كان «الاستشراق» مجرّدَ كتابٍ عابر، لَما استُدعي اليوم بهذا القدر من الحماسة للنَيْلِ منه أو تجاوُزِه.

* كاتب ومُترجم من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.