عابد خزندار

حين أكتب عن الفكر التنويري في أوروبا، فهذا لا يعني أنني أتبناه، أو أروج له، بل إنني أختلف معه في بعض الجوانب، ولكنني أقدّمه لقارئنا العربي؛ لأنه الفكر السائد في الغرب منذ عصر النهضة وحتى الآن، ولهذا لكي نفهم هؤلاء القوم ونحاورهم يجب أن نفهم فكرهم، ولي ملاحظة لا أجد مناصا من أن أبديها، وهي رأي تودوروف (الذي سيأتي ذكره بعد حين) عن الأديان، فالدين الإسلامي بالذات لم يُكبّل حرية الفرد ويقيدها، بل بالعكس حررَ الإنسان من الأغلال التي كانت تقيده كما حرره من عبودية الأوثان وعبودية الآخر «ولا يتَّخِذ بعضنا بعضا أربابًا من دون الله» على أن في الفكر التنويري جوانب يمكن أن نتبناها، وأهمها أن الشعب هو مصدر السلطات، ثم إنه لولا الفكر التنويري، لما ولدت الديموقراطية.

لماذا نحتاج دائما إلى التنوير: عن تزفتان تودوروف

لكي نعرّف التنوير في بضع كلمات، فإن هذا يشكل نوعًا من المخاطرة؛ لأن هذه الحركة انطلقت في الحقيقة منذ قرون في عدة دول في الوقت نفسه، وجُوبهت بعدة أفكار متناقضة. وهذا الإشكال يمثل أول سمة لها، وعلى النقيض مما يميل إليه البعض في الغالب، فإننا لا يمكن أن نختزلها في تيار فكري واحد. والتنوير في الواقع وليد فترة تكونية، وليس وليدا لبادرة غير مسبوقة، فهو ينطوي بين جنباته على تراث فكري انبثق في أوروبا في نهاية العصور الوسطى، وتشكلت مكوناته في عصر النهضة والقرن السابع عشر، وهو يضفي أهمية كبرى على العقلانية والتجريبية في الوقت نفسه، لا ليعارضهما بل ليؤكد أهمية كل منهما، معتبرا أن المعرفة ليست تاريخا للشعوب بقدر ما هي قوانين ثابتة، ومؤكدا أيضا على تعدد الثقافات وليس على وحدانية الحضارة، وفي الوقت نفسه فإنه يرفع لواء العقل والعاطفة والجسد والروح.

والفنون والعلوم والطبيعي والمصطنع، متبنيا لكل عوالم الإبداع الثقافي والفلسفي والعلوم ماراً بالأدب والقانون والفن التشكيلي. والذي استجد هو أن الأفكار اطرحت.

الكتب لكي تتحقق في الحياة اليومية وهي خطوة أفضت في نهاية القرن إلى حركات انتفاضية كحرب الاستقلال في أميركا والثورة الفرنسية. وعلى هذا فتعريف التنوير، لا يتحقق إلا بواسطة العديد من التبسيط، ومهما كان التعريف المتفق عليه، فإنه لا يخلو من استثناءات، والفرنسيون يعتقدون في الغالب أنهم أصحاب التنوير، وهذا ليس صحيحا، فإن الأفكار العظمى تطورت بداية عبر المانش (في بريطانيا) أو إيطاليا.

وتعمقت بعد ذلك في ألمانيا، أما فرنسا فهي ببساطة المضمار الذي أتاح لهذه الأفكار أن تنتشر في كل مكان، وذلك بفضل إشعاع الروح الفرنسية، وأيضا بفضل تبسطيات فولتير ومجموعة الأنسكلوبيديا التي ينسى المرء أحيانا أنها ظهرت كرد فعل الأنسكلوبيديا الإنجليزية خفية، وعلى هذا فالجزء الحقيقي من الفكر التنويري أوروبي، فمونتيسكيو جال في عدة دول أوروبية، وفولتير استقر في إنجلترا.

وهيوم الأسكتلندي وباكاريا الإيطالي عاشا فترات طويلة في باريس، والكتب التي ألفها البعض ترجمت وشرحت أو نقدت، وحتى أحيانا نشرت خارج بلادهم؛ لأن مؤلفيها اضطهدوا فيها نتيجة لأفكارهم المستفزة. وإذا أراد المرء أن يختزل التراث الثقافي للتنوير في أبسط طرح، فما الذي يجب أن تكون له القيمة الكبرى؟ فكرة الاستقلال، إمكانية التحرر من النير الذي يفرض على كل إنسان طريقة واحدة للتفكير والإحساس، كما هو الحال في الدين المسيحي، وهذا ما يتعلق بوضع الدين في المجتمع، وهذا البحث عن الاستقلال في كل مجالات الوجود. بدءا بالمعرفة والتأكيد عليها، وهي بذلك تتحرر من كل قيد إيدولوجي، وبالتالي تحقق نجاحا فائقا، وهذا أيضا بالنسبة للقانون والتعليم والفنون، وهذا الاستقلال أصبح مطلبا فرديا، بحيث يعيش كل إنسان حياته على النحو الذي يريده، وليس كما يريده الآخرون.