محمد الدوسري

كانت أسئلة مهمة تلك التي طرحها قاضي محكمة جنايات القاهرة، التي عُقدت برئاسة المستشار محمد السعيد الشربينى، على الداعية والشيخ السلفي حقيقة محمد حسين يعقوب، في قضية ما عُرف إعلاميا بـ«خلية داعش إمبابة»، لمحاكمة 12 متهما. كانت أسئلة تفكيكية وتشريحية للذهنية والعقلية المتدينة، المتسربلة بلباس الفكر الطهوري، الذي يعتقد أنه سوف يُنقذ الأمة الإسلامية من وقوع شر قد اقترب بسبب ما زعمه صاحب الشهادة أن الخبث قد كُثر في الأمة، وأن هذا الخبث إذا أصبح كثيرا ومنتشرا، فإن الهلاك سوف يعم الأمة بجميع أفرادها، سواء كانوا صالحين أو غير صالحين، وذلك تأسيسا على الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أنَّ النَّبيَّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يقولُ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه. وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ».

هذه الفكرة متأصلة تأصيلا عميقا في الفكر الديني الذي يزعم الطهورية، فإذا ما استعرضنا جميع أدبيات الدعاة، وكل من يزعم أنه في شكله الظاهري مختلف، وفي سيرته الظاهرية يتميز بالتزامه الديني، سواء كانوا كتابا أو كانوا مفكرين إسلاميين أو كانوا جهاديين أو أصحاب فكر متطرف، فسنجد أنهم ينزعون إلى مثل هذه الأحاديث المطلقة التي تُخبر عن شيء مستقبلي، ولـــمَّــــا يحدثُ أو يقع ما تخبر عنه بعدُ، ولا يملكون أي يقين قطعي الدلالة والثبوت في كون أن ما تم الإخبار عنه في تلك الأحاديث المستقبلية واقع لا محالة، فيؤصلون ذلك المسار الفكري الخطير عند تنزيلهم تلك الأحاديث بأن تكون جل تحركاتهم ودروسهم وهمساتهم وأقوالهم وأطروحاتهم، التي يؤسسون لها، غايتها وأهدافها هو حتى لا تهلك الأمة، وحتى ينقذوا أنفسهم أولا، ثم ينقذون باقي الأمة من الهلاك العام الذي لن يبقي ولا يذر. وهذه الإشكالية، وهي تنزيل النصوص المطلقة التي تتحدث عن الغيبيات المستقبلية، يتوجب ألا يتحدث عنها ولا يُقرر كيفية تنزيلها إلا الاجتهاد الجماعي، الذي يبلغ حد الإجماع القطعي، وهذا هو الضابط الذي يعصم من الزلل، والوقوع في الدمار والخراب، والفتن الكبرى للأمة، لكل من يقرأ تلك الأحاديث التي تُخبر عن أمور مستقبلية. هذه قناعة توصلت إليها، بعد بحث معمق ودراسة لأكثر من ثلاثة عقود، أن تنزيل الأحداث التي جاءت في الآثار النبوية وتتحدث عن أمور مستقبلية لا يجوز أن يتحدث فيها عامة الناس ولا الأغرار الصغار، فهذه الأمور يتولاها كبار العلماء في المؤسسات التي تُمسك بزمام الفتوى، وذلك حتى لا تتكرر الأخطاء والضلالات التي مرت طيلة العقود الماضية، حيث إن كثيرا من الحوادث الأليمة التي وقعت في التاريخ كانت تستند إلى أحاديث تتحدث عن أمور مستقبلية، وتم إنزالها على الواقع، وكانت تنتهي بإدراك أن ذلك التنزيل كان خطأ فادحا، وأصاب المجتمعات في مقتل، وكان سببا في زعزعة الأمن والاستقرار في تلك المجتمعات، وقد أحدث كثيرا من القتل والتشريد، وأقرب أمثلة ذلك ادعاء ظهور «المهدي»، فعلى مر التاريخ خرج كثير من الأفراد والجماعات يدعون أن صاحبهم هو «المهدي»، وسوف ينزل ويعم الأرض عدلا بعدما مُلئت جورا وظلما. وقد أدركنا، في وقتنا المعاصر، حادثتين أليمتين، غيرتا كثيرا في مجتمعاتنا، وهما حادثة الحرم، التي عُرفت واشتهرت بـ«حادث الحرم» أو «حادثة جُهيمان»، والأخرى ما أدعاه «داعش» من قرب وقوع معركة «مرج دابق»، وكلتا الحادثتين والواقعتين كانتا متأسستين على أوهام ووساوس أصحابها، بل قد تم قتل كثير من الأبرياء في تلك الحوادث. وفي خضم تلك الأفكار الطهورية، جاءت أسئلة قاضي محكمة جنايات القاهرة، المستشار محمد السعيد الشربينى، كي توضح أن هذا المسار الديني الذي يدعي الطهورية يتخفى وراء أجندات، هي معروفة للمتخصصين، ولمن سبر غور أفكار الجماعات الدينية المتطرفة، التي تسعى منذ 1928 وحتى يومنا هذا لإعادة أنقاض تلك الخلافة المزعومة التي جعلت بلاد العرب «شذر مذر» متفرقة، وتُعاني الجوع والفقر والأمية، حيث كان الشيخ محمد حسين يعقوب يخفي معرفته بالفكر السلفي والفكر التكفيري والفكر الداعشي، وتنصل من معرفته بأطروحات الجماعات الجهادية عندما سأله القاضي عن ذلك. ورد «يعقوب» على سؤال المحكمة، مؤكدا أنه لا يعرف معنى «الفكر السلفي»، ولم ينتمِ إلى أي حزب أو جماعة، إلا أن التاريخ القريب يُثبت أنه على يقين بمعرفته بكل ما أنكره، ففي أغسطس 2013 اعتلى الشيخان السلفيان محمد حسين يعقوب ومحمد حسان منصة اعتصام أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي في ميدان مصطفى محمود بحي المهندسين، قبل ساعات من فض الاعتصام الأشهر في ميدان رابعة بمدينة نصر. وقال «يعقوب»، في كلمته: «نحن بين أيديكم، ودماؤنا دون دمائكم، ونقول لمن يقول إنه سيفض الاعتصامات لن تفض الاعتصامات، وستستمر كما هي»، وهذا دليل قوي ومادي وملموس أنه يعرف فكر «الإخوان المسلمين» وفكر «السلفيين»، ولا يجهل أي شيء من أسباب خروج تلك الفئة المعتصمة في ميادين القاهرة - آنذاك - بل كان يُشجع على البقاء فيها، وهذه كذبة حقيقية أمام الملأ، ويكيفونها على أنها «حيدة علمية» من موقف يدخل تحت قاعدة «الضرورة» ومبدأ «الإكراه»، وهذه «الحيدة» هي من الأسس الحقيقية التي تقوم عليها الدعوات المتدينة في عصرنا الحاضر، وهي من الإشكاليات القيمية التي تنخر في جسد الحقيقة والطهورية التي يدعونها، لأن تلك الطهورية تتعارض وتتناقض مع الكذب وتسييس القيم والمبادئ، فما هو ذنب أولئك الشبيبة الأغرار الذين اندفعوا بشرارة الكلمات التي انقدحت في خطب «يعقوب» و«حسان» وغيرهما؟!، بل ثبت بالتسجيلات أن «يعقوب» كان يُكفر حاكم مصر محمد حسني مبارك، ولا يراه وليا شرعيا، فأسست تلك الخطب والكلمات وكونت شابا متهيئا لعمل أي شيء، بما فيها القتل والتفجير، من أجل الوصول إلى تلك الجنة الطهورية، مستغلين العامل الديني في تأثيرهم، وهذا التأثير هو تأثير حقيقي، وقد لمسناه خلال العقود الماضية في كثير من شباب الجهاد وأصحاب الفكر المتطرف. لم يكن جواب «يعقوب» عن تأثير خطبه إلا أنه كان يقول: «لا أعلم تأثير كلامي، لأنني أقف على المنبر عند خطبة الجمعة، ولا أشعر بمن أمامي، لأنني أخاطب الله، وأحاول أن أقدم رسالتي لجمهور العامة من الشباب والملتزمين بأسلوب يستطيعون فهمه». هل هذا كلام مقبول أو يستسيغه عاقل يعلم علم اليقين التأثير الحقيقي لهؤلاء!!. لهذا، فإن تلك المحاكمة العلنية، التي أعتبرها تاريخية، لأنها كانت مفتاحا لبيان حقيقة المسار والنهج الديني المتطرف، قد أبانت بعضا من الحقيقة، خصوصا للمريدين، ولمن يظن خيرا في من يُلقي الخطب والدروس، عندما يعلم أن هؤلاء المنظرين والمؤسسين لتلك الدروس والخطب ليسوا كما يصورون أنفسهم بتلك الطهورية والنزاهة، التي لا يعتريها كذب أو تدليس أو مراوغة، بل إنهم منغسمون في بحور من الكذب والتدليس فيما يوافق أهواءهم ورغباتهم، وأنهم لم يكونوا متبعين للصدق والنزاهة والطهورية التي يُرغبون الناس فيها (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). هؤلاء المنظرون هم من يصنع فكر الشبيبة والأغرار الصغار الذين أصبحوا روادا إما للمقابر عن طريق تفجير أنفسهم أو قتلهم، أو للسجون والمعتقلات، وذلك لأن التطرف الديني له جذور فكرية، حيث أوضح العديد من المحللين أن جذور التطرف الديني - ترجع - إلى فكر سيد قطب وحكمه بارتداد المجتمع عن الإسلام، وتردي هذا المجتمع في الجاهلية، لرفضه حاكمية الله، واستخدامه فئة من الشباب لهذه الفكرة أساسا في تغيير الواقع بالقوة.