ما وظيفة الأدب والرواية، على الأخص في المجتمع العربي اليوم، ما دوره؟ ومهمته؟ وفاعليته؟ أتصور أن تلك القضية تلح بلا شك على ضمائر معظم الروائيين والنقاد، وخاصة عندنا في مصر وفي العالم العربي على السواء. لست أزعم أن عندي إجابة جاهزة في هذا الموضوع.. أميل للتكلم بلسان القصاص والروائي أولا، ثم بعد ذلك ربما بلسان المهموم بالمسائل الثقافية عامة. عندما أقول إنه يخامرني شك كبير في أن عمل الروائي العربي الأصيل المبدع (أيا كان تحديد معايير الأصالة والإبداع إن كان لها معايير مسبقة) يستطيع أن يقوم بوظيفة فعالة مؤثرة على الآليات الاجتماعية بشكل مباشر وملموس وعلى المدى القريب وخاصة في المرحلة الراهنة التي ما زالت فيها الأمية الأبجدية لا تقل في أحسن العروض عن نسبة 50 % وما زالت الأمية الثقافية إن صح هذا التعبير شائعة وبشكل أخص بعد أن ارتفع مد وسائل الإعلام الجماهيرية وأصبحت فنون (بيع) المنتجات الفنية التي تتخذ مظهر الفن أبرع وأدق وأكثر سطوة.
أتصور أن الرواية المكتوبة والمطبوعة التي يمكن أن نعتبرها مما ينتمي إلى الفن الرفيع أو الكتابة الجيدة أصبحت على هامش حياتنا الاجتماعية، جدًا. لكن هذا لا يعني أنه من المقبول أو حتى من الممكن أن تنفي من البداية وظيفة الأدب والرواية.
أتصور أن ثم إحساسًا يزداد في العالم العربي وخاصة في الفترة الأخيرة، بأن المثقف عامة والكاتب والروائي خاصة معزول عن المجتمع، وأنه كم مهمل وأنه ليست له فاعلية وليست له سلطة وليست له فرصة المشاركة في اتخاذ القرار الذي يهمه كما يهم مجتمعه. صورة تبدو قاتمة حقًا، في الوقت الذي نكاد نتفق فيه جميعًا على المظاهر الملموسة للأزمة التي يمر بها الأدب في البلاد العربية على اختلاف الدرجة والمستوى. تمزق الكاتب وعزلته، سيادة القيم الاستهلاكية، مشكلة الأمية، وقلة بل ندرة القراءة، قصور التعليم، نزيف دم الكتاب والفنانين في مجاري العمل الإداري والمكتبي، طغيان التسلية السهلة التي تحمل تدميرًا خفيًا للقيم الثقافية، سيطرة أجهزة المؤسسات وأجهزة الإعلام، وتسخير مؤسسات الثقافة لخدمتها. ومع ذلك فإن مقاومة هذه الأزمة والسعي الدائب إلى حصارها والخروج من إسارها لم يتوقف في أي وقت من الأوقات. ولكن أولًا دعونا نفكر قليلًا أو ننظر قليلًا هل حقيقة اختفى دور الكاتب في المجتمع؟
لا يمكن للأدب أن يجد لنفسه دورًا في وسط مجتمع تزداد فيه سطوة الأجهزة الإعلامية التي تلعب فيها الصورة دورًا سائدًا.
«هل أصبحت هذه الأجهزة من القوة بحيث لا يملك أحد، كاتبًا أو قارئًا إلا أن يكون مجرد ترس دوار فيها؟ أظن لا.
إن استقراء الواقع يشير إلى الإجابة في ناحية الأمل لا في ناحية اليأس، ولكن هذا طبعًا يتوقف على عوامل كثيرة جدًا. من البداية لا أقطع بأنه ليس للأدب دور - دور اجتماعي حاسم على الأقل - كما أني لا أقطع بأنه له دور.
الاحتمالان مطروحان والإجابة تتوقف على عوامل عدة. أتصور أن هناك عند الكتاب والروائيين والفنانين بصفة عامة إيمان يتجاوز معطيات الواقع، يستمد من الواقع عناصر معينة ولكنه لا يسلم لها بكل الحتمية التي تبدو أنها تومئ إليها بمعنى ما؛ إيمانًا بأن للأدب وظيفة.
ويشارك جمهور القراء - ضمنًا على الأقل - في هذا الإيمان. يبدو لي من مجرد أن المشكلة مثارة باستمرار، وأن الإلحاح عليها وتقليب أوجهها لا يتوقف جيلا وراء جيل، إنها تعكس عنصرًا واقعيًا. لو أن المشكلة كانت مجرد مشكلة تدور بين الكاتب ونفسه، لو كانت مشكلة تدخل في نطاق ما يصح أن نسميه (ذاتية بحتة) لما كان لها هذا التكرار وهذا الإلحاح. إذن فهذا كله يشير إلى وجود احتياج قائم وحقيقي، حتى على المستوى الاجتماعي، احتياج يعبر باستمرار عن ذاته لعله احتياج فطري يبحث دائمًا عن التحقيق.
فلنقل إذن إن هيمنة الصورة من داخل هيمنة الأجهزة التقنية والمؤسسات الإعلامية ما زالت موضع سؤال. وأظن أنها ستظل دائمًا موضع سؤال. ولنقل إن الأدب المكتوب مهما بدا عتيقًا عفا عليه الزمن سيظل فعالًا ومثيرًا للخيال وحافزًا للمشاركة الإيجابية وللجهد الخلاق من جانب القارئ.. دعك طبعًا من الإشارة المفصحة التي تقول إن عدد الروايات المطبوعة يزداد يومًا بعد يوم في عصر التليفزيون والفيديو، وإن عدد قراء الرواية بحكم آليات اجتماعية واضحة يزداد، بل الروايات (بغض النظر الآن عن مستواها الفني) يزداد عدد صفحاتها ويكبر حجمها، ودعك من أن التليفزيون أحيانًا يسهم في اجتذاب القراء إلى عدد أكبر من الروايات سواء بأن يقدمها مصورة أو بأن يخدمها بالندوة والتقديم والتعليق إلخ. هذه الظواهر كلها جديرة بأن تجعل هذه المشكلة موضع سؤال دائم.
التليفزيون يسهم في اجتذاب القراء إلى عدد أكبر من الروايات سواء بأن يقدمها مصورة أو يخدمها بالندوة والتقديم والتعليق.
1989*
* كاتب وروائي مصري «1926 - 2015».
أتصور أن الرواية المكتوبة والمطبوعة التي يمكن أن نعتبرها مما ينتمي إلى الفن الرفيع أو الكتابة الجيدة أصبحت على هامش حياتنا الاجتماعية، جدًا. لكن هذا لا يعني أنه من المقبول أو حتى من الممكن أن تنفي من البداية وظيفة الأدب والرواية.
أتصور أن ثم إحساسًا يزداد في العالم العربي وخاصة في الفترة الأخيرة، بأن المثقف عامة والكاتب والروائي خاصة معزول عن المجتمع، وأنه كم مهمل وأنه ليست له فاعلية وليست له سلطة وليست له فرصة المشاركة في اتخاذ القرار الذي يهمه كما يهم مجتمعه. صورة تبدو قاتمة حقًا، في الوقت الذي نكاد نتفق فيه جميعًا على المظاهر الملموسة للأزمة التي يمر بها الأدب في البلاد العربية على اختلاف الدرجة والمستوى. تمزق الكاتب وعزلته، سيادة القيم الاستهلاكية، مشكلة الأمية، وقلة بل ندرة القراءة، قصور التعليم، نزيف دم الكتاب والفنانين في مجاري العمل الإداري والمكتبي، طغيان التسلية السهلة التي تحمل تدميرًا خفيًا للقيم الثقافية، سيطرة أجهزة المؤسسات وأجهزة الإعلام، وتسخير مؤسسات الثقافة لخدمتها. ومع ذلك فإن مقاومة هذه الأزمة والسعي الدائب إلى حصارها والخروج من إسارها لم يتوقف في أي وقت من الأوقات. ولكن أولًا دعونا نفكر قليلًا أو ننظر قليلًا هل حقيقة اختفى دور الكاتب في المجتمع؟
لا يمكن للأدب أن يجد لنفسه دورًا في وسط مجتمع تزداد فيه سطوة الأجهزة الإعلامية التي تلعب فيها الصورة دورًا سائدًا.
«هل أصبحت هذه الأجهزة من القوة بحيث لا يملك أحد، كاتبًا أو قارئًا إلا أن يكون مجرد ترس دوار فيها؟ أظن لا.
إن استقراء الواقع يشير إلى الإجابة في ناحية الأمل لا في ناحية اليأس، ولكن هذا طبعًا يتوقف على عوامل كثيرة جدًا. من البداية لا أقطع بأنه ليس للأدب دور - دور اجتماعي حاسم على الأقل - كما أني لا أقطع بأنه له دور.
الاحتمالان مطروحان والإجابة تتوقف على عوامل عدة. أتصور أن هناك عند الكتاب والروائيين والفنانين بصفة عامة إيمان يتجاوز معطيات الواقع، يستمد من الواقع عناصر معينة ولكنه لا يسلم لها بكل الحتمية التي تبدو أنها تومئ إليها بمعنى ما؛ إيمانًا بأن للأدب وظيفة.
ويشارك جمهور القراء - ضمنًا على الأقل - في هذا الإيمان. يبدو لي من مجرد أن المشكلة مثارة باستمرار، وأن الإلحاح عليها وتقليب أوجهها لا يتوقف جيلا وراء جيل، إنها تعكس عنصرًا واقعيًا. لو أن المشكلة كانت مجرد مشكلة تدور بين الكاتب ونفسه، لو كانت مشكلة تدخل في نطاق ما يصح أن نسميه (ذاتية بحتة) لما كان لها هذا التكرار وهذا الإلحاح. إذن فهذا كله يشير إلى وجود احتياج قائم وحقيقي، حتى على المستوى الاجتماعي، احتياج يعبر باستمرار عن ذاته لعله احتياج فطري يبحث دائمًا عن التحقيق.
فلنقل إذن إن هيمنة الصورة من داخل هيمنة الأجهزة التقنية والمؤسسات الإعلامية ما زالت موضع سؤال. وأظن أنها ستظل دائمًا موضع سؤال. ولنقل إن الأدب المكتوب مهما بدا عتيقًا عفا عليه الزمن سيظل فعالًا ومثيرًا للخيال وحافزًا للمشاركة الإيجابية وللجهد الخلاق من جانب القارئ.. دعك طبعًا من الإشارة المفصحة التي تقول إن عدد الروايات المطبوعة يزداد يومًا بعد يوم في عصر التليفزيون والفيديو، وإن عدد قراء الرواية بحكم آليات اجتماعية واضحة يزداد، بل الروايات (بغض النظر الآن عن مستواها الفني) يزداد عدد صفحاتها ويكبر حجمها، ودعك من أن التليفزيون أحيانًا يسهم في اجتذاب القراء إلى عدد أكبر من الروايات سواء بأن يقدمها مصورة أو بأن يخدمها بالندوة والتقديم والتعليق إلخ. هذه الظواهر كلها جديرة بأن تجعل هذه المشكلة موضع سؤال دائم.
التليفزيون يسهم في اجتذاب القراء إلى عدد أكبر من الروايات سواء بأن يقدمها مصورة أو يخدمها بالندوة والتقديم والتعليق.
1989*
* كاتب وروائي مصري «1926 - 2015».