سعد ابو طالب

نظرية المعرفة العلمية ركيزة مركزية مكملة في الفلسفة المعرفية ، لأنها تهتم بشكل مباشر بالعلاقة بين المعرفة النظرية والتطبيق على ارض الواقع ، وهذا التفاعل بين الفكر والتجربة يحدث إشكاليات معقدة بسبب تطبيق الأفكار في مجالات متنوعة ، وللتقريب اكثر ( كيف فكرت وكيف حولت لواقع ) وهذا للنظرة الأولى يبدو سهلا ولكن لنتعمق بالفكرة ونفصلها تحليليا معا.

ما يرافق ذلك اخوتي تحديات كثيرة مرتبطة بالسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية ومجالات كثيرة أخرى ، الآراء الفلسفية إشارة الى ان النظرية برمتها تمثل الجسر بين ما نعرفه وما نستطيع ان ننجزه ، وكل هذا ينطلق من أسئلة محورية منها مثلا ، كيفية اكتساب المعرفة العلمية ؟ وكيفية تحويلها الى أدوات فعالة قابلة للتفاعل مع الاخرين ؟ وماهي العوائق التي تحول دون تحقيق ذلك ؟ .

اشار ارسطو في مفهوم الحكمة العملية الى انها القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة بعد الفهم العميق للسياق وهذا ما اشارت اليه المقولة الشهيرة (الغاية من العلم هي العمل) وفي العالم الواقعي فتطبيق المعرفة العملية يواجه فجوة كبيرة بين اصل النظرية والتطبيق ، بسبب أن اغلب المبادئ النظرية تكون مجردة ما يجعل تحويلها الى ممارسات عملية تحديا يتطلب منا إعادة تفسيرها . وعلى سبيل المثال النظريات الاقتصادية الجاهزة وكيفية تحقيق النمو ، عندما نريد تطبيقها على ارض الواقع نجد اختلاف جذري لان البيئة الاقتصادية قد تكون مختلفة بالإضافة الى اختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية التي تزيد الامر تعقيدا ، ويمكن ان تصدم الأفكار القائمة على الحرية الفريد بعوائق متعددة داخل المجتمعات التقليدية التي تفضل الجماعة على الفرد ، بالإضافة الى التغير السريع في العالم فهو يزيد أيضا من تعقيد التطبيقات الواقعية وتكون حينها عاجزة من اللحاق بوتيرة التغيير.

وعلى الرغم من كل هذا اخذت تطفو الى السطح الكثير من المعززات ، ومنها الابتكارات الحديثة والتعلم التجريبي الذي يعتمد على الخبرة واكتساب الخبرات المباشرة في تحسين النماذج واضيف الى هذا التشارك في صنع القرار العملي فهو وسيلة فعالة لدمج أصحاب المصلحة المختلفين ، وهذا ما يظهر الان بوضوح في مشاريع التنمية المستدامة ، وتفاعل التخصصات هذا مهم جدا ، كما هو الحال في قطاع الطب مثلا ، ستجد تداخل كبير بين الاحياء والهندسة لأجل تطوير تقنيات طبية حديثة .

اراء فلسفية أخرى تشير الى ان العقل هو الوسيلة الأساسية لتحقيق التكامل وان العقل البشري والفلسفة العلمية يمكن ان يتعاونا لخلق الحلول المرنة التي تتماشى مع السياقات الاجتماعية وان العمل هو غاية وهدف العلم الناتج .

اما اليوم سادتي وفي عصرنا الحديث المتطور هذا ، تواجه نظريات المعرفة تحديات جديدة وابرزها تهجين الذكاء الاصطناعي مع المعرفة البشرية ، لان الآلات والخوارزميات تفتقر الى الحساسية تجاه السياقات الإنسانية المعقد الا بعد إعادة البرمجة وهذا ما تكلمنا عنه في بداية المقال ، ولا ننسى المخاوف الأخلاقية الحديثة من التقنيات الجديدة في الهندسة الوراثية مثلا فهي تتطلب توافقا بين فائدتها العلمية والاعتبارات الأخلاقية .

وفي ضوء هذه التحديات تظهر الحاجة الى دراسة معرفية تطبيقية تكون متوازنة ومرنة وتستطيع التكيف مع التغيرات فائقة السرعة التي تحدث في هذا العالم ، وان مستقبل نظرية المعرفة العملية لا يقتصر على حل المشكلات الراهنة فحسب ، بل يحتاج إعادة صياغة مستمرة للنظريات الأولية بما يتناسب مع واقع دائم التغيير ، وهنا اود ان ابين ان هذه النظرية ستبقى دليلا حيا على ان المعرفة ليست مجرد هدف بل وسيلة حقيقية لتحسين الحياة البشرية وصناعة توازن ديناميكي بين الفكر والعمل.