جمال القعبوبي

الخطاب الذي ألقاه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، في لقائه بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب، خلال الاحتفال الرسمي لسموه في البيت الأبيض، ليس مجرد خطاب بروتوكولي عابر، بل هو هندسة خطابية متقنة. فالخطاب، الذي يبدو موجزًا في ظاهره، هو في حقيقته نسيج مُحكم من الرسائل المزدوجة: رسائل ظاهرة (معلنة) تخاطب البروتوكول، ورسائل ضمنية (غير معلنة) تخاطب التاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام. هذا التحليل سيُفكك شفرات هذا الخطاب العبقري؛ ليكشف عن طبقات المعنى الكامنة تحت سطحه، مُبرزًا الحنكة السياسية والعمق الإستراتيجي الذي يميز قيادة المملكة العربية السعودية.

أولاً: القراءة التداولية ومناورة التأدب الذكية يبدأ الخطاب بعبارة: «من الصعب جدًا الحديث بعد السيد الرئيس، لا أحد يجيد الحديث أكثر منه... شكرًا جزيلاً لك». هذه الجملة، التي تبدو مجاملة بروتوكولية، هي في الحقيقة مناورة افتتاحية ذكية في علم التداوليات (Pragmatics) الهدف الضمني هنا ليس مجرد الثناء، بل هو تطبيق لمبدأ التأدب، حيث يرفع سمو ولي العهد، من شأن ترمب دون أن يفقد سموه مكانته، بل يضع نفسه في موقع «الشريك المتواضع» الذي يمتلك ثقة عالية بالنفس. كما أن هذه العبارة تلتزم بمبدأ (غرايس) في جودة الرسالة وكمها؛ فهي توفر الثناء المناسب دون مبالغة، وتؤكد أن الاحترام لا يعني الخضوع. وتتواصل هذه المقاربة التداولية في عبارة: «نشعر بأننا في وطننا». هذا التعبير يتجاوز مجرد الإشارة إلى كرم الضيافة؛ ليصبح استلزامًا تخاطبيًا يؤكد عمق العلاقة. فسمو ولي العهد، يفترض مُسبقًا (الافتراض المسبق) وجود تاريخ طويل يبرر هذا الشعور بالألفة، والرسالة هي أن العلاقة تجاوزت الرسميات إلى مستوى التحالف العميق والمؤسسي الذي لا تهزه التقلبات السياسية.

ثانيًا: تأسيس الندّية التاريخية فالتحول إلى الإطار التاريخي هو النقلة الأكثر عبقرية في الخطاب. عندما يُشير سمو ولي العهد، إلى أن العلاقة بدأت «منذ تسعة عقود تقريبًا... روزفلت، والملك عبد العزيز»، فإنه لا يقدم معلومة تاريخية فحسب، بل يقوم بتأصيل الشرعية التاريخية للشراكة. هذا الربط بمؤسسي الدولتين يمنح الشراكة الحالية حصانة ضد التقلبات السياسية، ويستدعي الذاكرة الجمعية لصناعة سردية مُشتركة تؤكد ثبات المملكة. لكن الذروة السيميائية تأتي في المقارنة بين تاريخ الدولتين: «أمريكا تحتفل بمرور 250 عامًا... وبعد عامين سنحتفل في السعودية بمرور 300 عامًا». هذه العبارة من الخطاب هي تأسيس للندّية التاريخية (Historical Parity) بذكاء لا يضاهى. فسمو ولي العهد، يقرن تاريخ أمريكا بتاريخ المملكة، ثم يتفوق عليها بـ 50 عامًا. ليؤكد أن المملكة أسبق من أمربكا وأعرق، فالرقم (300 سنة) يتحول إلى «رمز قوة» و«ثبات» و«أصالة» في المقاربة السيميائية. الرسالة الضمنية هنا هي: «نحن لسنا دولة حديثة، بل حضارة ضاربة في العمق، ونحن أقدم منكم». هذا يفرض الاحترام القائم على الندّية التاريخية، ويؤكد نضج الدولة وثبات بنيتها السياسية في مواجهة أي تصورات فوقية.

ثالثًا: تثبيت دور الشريك الإستراتيجي ينتقل الخطاب إلى تثبيت دور المملكة كشريك إستراتيجي لا غنى عنه في الأمن والاقتصاد العالميين، عبر استعراض الأدوار التاريخية: الدور الاقتصادي والأمني: الإشارة إلى أن المملكة كانت «المورد الرئيس للنفط خلال الحرب العالمية الثانية» ليست مجرد معلومة اقتصادية، بل هي تذكير إستراتيجي بأن أمن اقتصادكم مُرتبط باستقرارنا. هذا تطبيق لنظرية الأمن الاقتصادي، حيث يجعل المملكة شريكًا إستراتيجيًا لا يمكن التخلي عنه.

1ـــ الدور العسكري والأمني الإشارة إلى أن المملكة «واجهت التطرف والإرهاب خلال الحرب الباردة» تثبت دور الشريك الأمني الفاعل. فالرسالة هنا هي أن المملكة ليست متلقيًا للسياسات، بل حليف في خط المواجهة الأول، وهذا يُبرر أي تعاون عسكري أو أمني مستقبلي، ويؤكد أن المملكة قوة تقاتل الإرهاب بفاعلية.

2 ـــ بعد تثبيت هذا الأساس التاريخي والأمني، ينتقل سمو ولي العهد، إلى المستقبل «اليوم يوم مميز... آفاق التعاون الاقتصادي بين المملكة العربية السعودية، وسائر دول أمريكا أوسع وأوسع في مجالات عديدة... سنركز على التنفيذ». هذا التحول هو بيان إستراتيجي يوجه الأسواق وصناع القرار. الإعلان عن «يوم مميز» هو إشارة قوية للمستثمرين بأن مرحلة جديدة من الفرص قد بدأت. والتركيز على «التنفيذ» يرسل رسالة للقيادة الأمريكية بأن المملكة شريك جاد يركز على النتائج الملموسة (Deals)، بما يتماشى مع فلسفة رؤية 2030 في تحويل التحديات إلى فرص اقتصادية.

رابعًا: التأثير في الجمهور يستخدم الخطاب لغة إيجابية ومحفزة تهدف إلى بناء الألفة (Rapport) والتأثير في الحالة الذهنية للمتلقي وعبر (البرمجة العصبية). نجد كلمات مثل «شكرًا» و«وطننا» في البداية تفتح قناة تواصل إيجابية. وفي الحديث عن المستقبل، تخلق كلمات مثل «مميز»، «أوسع وأوسع»، و«فرص» شعورًا بالتفاؤل والنمو، وتعمل كمحفزات (Trigger Words) في اللاوعي الجمعي للمتلقي. لكن الذكاء الأكبر يكمن في الخاتمة.

خامسًا: الخاتمة العبقرية والسيطرة على سردية (المقاربة الإعلامية والإستراتيجية) فقرة المراهنة «أن بعض مواقع المراهنات التي تراهن على ارتدائه بدلة سوداء...» بدت في ظاهرها تعليقًا خفيفًا، لكنها في جوهرها كانت إشارة مدروسة إلى أن موقع المملكة اليوم ليس محل توقعات تبنى على الانطباعات، أو الرغبات الخارجية. طرح سمو ولي العهد، المثال المتداول حول «الرهان على ارتداء البدلة السوداء» ليدلل – بأسلوب لطيف – على أن القراءات المبنية على الظن لا تصمد أمام حقيقة القرار السعودي واستقلاله، فالإشارة جاءت لتؤكد، بطريقة غير مباشرة، أن العلاقات تُدار وفق رؤية واضحة لا تتأثر بما يترقبه الآخرون أو يراهنون عليه. ومن خلال هذا الأسلوب الهادئ، قدم رسالة مفادها أن السعودية شريك يُعتمد عليه، لا طرفًا يُتوقع منه مسايرة أي طرف آخر، وأن حضورها في الملفات السياسية والاقتصادية قائم على ثبات في الموقف وثقة في الدور، لا على استجابة لضغوط أو مراهنات إعلامية. وهذه الالتفاته هي كسر للنمط (Pattern Interrupt) في البرمجة العصبية، حيث يكسر الجمود البروتوكولي ويخلق ارتباطًا عاطفيًا إيجابيًا بالشخصية. كما أنها تطبيق لنظريات التواصل الحديثة، حيث يضمن «تأثير الذروة والنهاية» أن تكون اللحظة الأخيرة هي الأكثر تذكرًا وإيجابية. القدرة على المزاح في هذا الموقف الرسمي تظهر ثقة هائلة بالنفس، وتوجه رسالة بأن القائد مرتاح ومُسيطر على كل تفاصيل المشهد، وهذه علامة قوة وارتياح لا تخفى على المراقبين.

خلاصة الأسطورة التحليلية لقد كان هذا الخطاب القصير بمثابة بيان إستراتيجي مُكثف، يوضح أن سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، يمتلك ذكاءً تداوليًا حيث استخدم المجاملة؛ لتعزيز الشراكة، والتاريخ لفرض الندية من خلال عمق إستراتيجي حيث ربط المصالح الاقتصادية والأمنية الأمريكية بالاستقرار السعودي بشكل لا يقبل التجزئة. وحنكة إعلامية حيث حوّل التركيز الإعلامي من المظهر إلى الجوهر، مُنهيًا الخطاب بلمسة شخصية عبقرية. فالخطاب لم يكن مجرد كلمات، بل كان هندسة خطابية تُظهر عمق رؤية سمو ولي العهد، وتؤكد مكانة المملكة كقوة عالمية ضاربة في التاريخ، وواثقة من مستقبلها، وشريك لا غنى عنه في صناعة الغد. إنه تحليل يثبت أن كل جملة ذكرها سمو ولي العهد، كان لها هدف ضمني غير مُعلن، وهدف ظاهري مُعلن، وكلاهما يصب في بيان عظمة سموه، وذكائه، وقوة المملكة وتاريخها.