إذا كان الفقهاء يقولون: لا يُنسَب إلى ساكت قولٌ، وهذا هو الأصل، فإنهم يقولون أيضاً: السكوت في معرض الحاجة بيان، فكأن الساكت نطق، وعبّر عن موقفه بهذا السكوت، ولهذا كان سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على عدم الإذن بالأذان والإقامة لصلاة العيد، مبيناً ودالاً على عدم شرعية الأذان والإقامة لها.

وسكوت الفتاة البكر البالغة عن الكلام في شأن قبول الزواج، دالاً على موافقتها، لما جُبلت عليه من الحياء.

وسكوت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواضع أو كلامهم في مواضع أخرى قد يدل على مواقف معينة حسب السياق والواقع والقرائن؛ لأن سكوتهم عن علم وكلامهم عن علم، وفي هذا يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله «قِفْ حيثُ وَقَفَ القومُ - يعني: الصحابة - فَإِنَّهُم عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا، وبِبَصَر نافِذٍ كفوا».

وحتى شعراء العرب يقررون ذلك، ويقولون إن سكوت بعض الناس (ربما) يكون له معان، كأنهم نطقوا وعبروا عنها، وإن كانوا ساكتين، وفي هذا يقول أبو العلاء المعري:

وقد تَنْطِقُ الأشياءُ وهْيَ صَوَامِتٌ

وما كُلّ نُطْقِ المُخْبِرينَ كلامُ

أي أن نطق المخبرين ليس محصوراً في الكلام، بل ربما يشمل السكوت.

وأما دلالة الكلام أوالسكوت، فقد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً حسب مضمونهما، فقد يكون الخير في الكلام وقد يكون الخير في السكوت، وقد يكون الشر في الكلام وقد يكون الشر في السكوت.

وهذا يحمل كل فرد المسؤولية الكاملة في حركاته وسكناته، فما كل ما يُعلَم يُقال، وما يُقال في وقت قد لا يناسب في وقت آخر، وكما أن كلمة واحدة تخرج بلا خطام ولا زمام ولا نظر في العواقب، قد تؤدي إلى شر وبلاء وفتنة، فإن السكوت أحيانا يؤدي إلى شر وبلاء وفتنة، فالسكوت مثلا عمن يخرق السفينة وعدم الإبلاغ عنه يُؤدي إلى غرق جميع راكبي السفينة بمن فيهم من خرقها.

فليست العبرة بكثرة الكلام والهذر، العبرة هل هذا الكلام نافع للبلاد والعباد، أم هو مجرد إثارة وتسويد للصفحات وثرثرة في الفضائيات؟

وكذلك ليست العبرة بكثرة السكوت، العبرة هل هذا السكوت يعبر عن مواقف إيجابية تمنع التهييج والإثارة على الوطن والقيادة، أم هو سكوت عن نصرة الدين والوطن؟ فيعبر بالتالي عن مواقف سلبية.

فليت من نصّبوا أنفسهم للحديث في كثير من وسائل التواصل والإعلام أن يتمهلوا وينظروا هل في كلامهم مصلحة فيقدموا، أم لا فيحجموا؟

إن الحديث خصوصاً عن قضايا الدين والوطن، يجب أن يكون بشرطين اثنين هما (العلم والعدل)، أما السب والشتم والصخب والضجيج والاتهام فكل يقدر عليه، لكنه لا ينصر حقاً، ولا يقمع باطلاً، بل يستعدي الناس، ويكثر الخصوم؛ لأنه خطاب فارغ لا يملك حجة ولا أدبا.

وما أكثر البراقشيين الذين يفسدون ويحسبون أنهم يحسنون، لقد تكلَّم في كثير من الأمور الشرعية والوطنية أقوامٌ لو أمسكوا عن بعض ما تكلَّموا فيه لكان الإمساك أوْلى بهم وأقرب إلى السلامة.

وقديما قال العلماء «لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون». ومع هذا فإن الخير موجود، والصادقون الذين يتكلمون بعلم وعدل واتزان وإخلاص كثروا بحمدالله. والله الموفق، ولا معبود بحق سواه.