في أحد أيام البرد القارسة، ذهب 3 شبان من «ليا» إحدى قرى جورجيا، للاحتطاب في غاباتها، والاستزادة من خيراتها، وبينما هم كذلك، عثروا على جرم غريب متهالك، قد أذاب الثلج من حوله، وسخن الماء من تحته، فلما همّ أحدهم بحمله، سقط منه في الحال، وأحرق يده من الإهمال، فأسروه بضاعة، وقرروا المبيت بالغابة، يتدفؤون بحرارته، ويتسامرون بمقربته، وبعد سويعات بدؤوا يتوجعون، وطوال الليل يتقيؤن، ورجعوا إلى أهليهم في اليوم التالي، وتتالت عليهم أعراض ومآسٍ، نقلوا على إثر ذلك إلى العاصمة «تبليسي» التي كان العرب يسمونها تفليس، وهناك اكتشفَ الأطباء ما بهم من إعياء، تسبب به الإشعاع، الصادر من مصدر الإسترونتيوم-90 المشع، الموجود في ذلك الجرم البشع، وما هو إلا مولد كهروحراري، يحول حرارة الإشعاع إلى كهرباء، ونتج عن الحادثة موت أحد الشبان الثلاثة.

وتدخلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية وحققت في تلك الحادثة، بعد طلب السلطات الجورجية المساعدة، وتوصلت الوكالة إلى أن السبب الرئيس لهذه الفاجعة، هو ضعف السلطات الجورجية المعنية بالحماية الإشعاعية في إحكام السيطرة على المواد المشعة.

الحوادث من هذا القبيل كُثر، وما يمنع من وقوعها إلا قوة السلطات المختصة بالحماية من الإشعاع، وحصول الحوادث أو الكوارث النووية والإشعاعية، لا ينبغي أن يحول دون الانتفاع بالمواد المشعة مثلها في ذلك مثل السيارات في الشوارع وأنابيب الغاز في المنازل، فوقوع حادث سيارة أو حريق منزل لا يعني الاستغناء عنهما. فالمواد المشعة ضرورية لتقدم أي بلد، ولها تطبيقات صناعية وزراعية وطبية لا حصر لها، فضلاً عن إنتاج الطاقة الكهربائية، فهي تستخدم في التنقيب عن البترول، المصدر الرئيس لدخل المملكة، ولصيانة أنابيبه، ولتشخيص الأمراض باستخدام الأشعة المختلفة، ولعلاج المرضى من السرطان فيما يعرف بالعلاج الإشعاعي، كما أنها موجودة في كواشف الحريق أو الدخان داخل المنازل وفي المباني الحكومية، والمحال التجارية، إذ يوجد داخل هذه الكواشف عنصر الإمريشيوم-241 المشع، الذي يعمل على تأيين جزيئات الهواء داخل الكاشف، وفي حالة وجود الدخان يقل تأيينه لهذه الجزيئات فتقطع الدائرة الكهربائية، وتنطلق صفارات الإنذار. ثم ألم تلحظ أن علب الكولا والعصائر والمياه جميعها معبأة على نفس المستوى، وتحتوي على الكمية نفسها، ما هذا إلا بفضل المادة المشعة التي تكون مثبتة على ارتفاع معين، وعندما تبدأ التعبئة، ويوصل السائل لمستوى الإشعاع يتأثر تدفق الإشعاع الواصل إلى الكاشف ويقطع التيار وتتوقف التعبئة.

كما أن هناك بطاريات نووية تعمل على الإشعاع الصادر من المادة المشعة فيها، قد يصل عمر هذه البطاريات إلى 80 سنة، ولكن يقتصر استخدامها على التطبيقات التي يصعب معها تبديل البطارية مثل: المركبات الفضائية، والأقمار الصناعية، وجهاز تنظيم ضربات القلب المزروع في جسم المريض، فليس من المعقول إجراء عملية في كل مرة يحتاج فيها المريض إلى بطارية جديدة.

وقد تنبهت حكومة المملكة العربية السعودية مبكراً، لاستغلال المواد المشعة والطاقة النووية في مسيرتها التنموية، مع الأخذ في الاعتبار ما قد تحدثه من أضرار، فأنشأت مؤخراً هيئة لذلك، هي هيئة الرقابة النووية والإشعاعية، يقف عليها خبراء في المجال، جميعهم من مواطني هذا البلد، جندوا أنفسهم لحماية شعب المملكة وبيئتها من أي أخطار محتملة قد تنتج من استعمال المواد المشعة، متسلحين بالعلم والمعرفة والخبرة، ومواكبين لأحدث التقنيات، ومطلعين على تجارب من سبقهم. وقبل أن تكون هيئة كانت مركزاً للحماية الإشعاعية يتبع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ثم انتقل إلى مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة.

الهيئة أنشِئت لتحمي شعب المملكة وبيئتها من الأخطار النووية والإشعاعية، وذلك بإصدار وتطبيق تعليمات صارمة في الحماية من الإشعاع، والرقابة الشديدة على جميع المواد المشعة بالمملكة، وإصدار تراخيص سواءً لحيازتها أو استعمالها أو نقلها أو تخزينها أو التخلص منها، ولا تصدر تراخيص الأفراد إلا بعد اجتيازهم لاختبارات الهيئة التي تعقد عدة مرات سنوياً.

المسؤولية كبيرة والمهمة عظيمة، والآمال معلقة في هذه الهيئة لتكون السد المنيع بعد الله للحيلولة دون وقوع كوارث نووية أو إشعاعية، كما حصل لشبان بلاد الكرج.