ما بين مقبرة نجد، بحي الرويس في جدة التي رقد فيها رائد الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية في السعودية فاروق لقمان مساء أمس رقدته الأخيرة، وما بين عدن التي ولد فيها عام 1935، مسافات من الجد والتعب والكفاح والألق، توجته رقما من الصعب تخطيه في تاريخ الصحافة السعودية الناطقة بالإنجليزية. مع غروب شمس الأمس ودع المشيعون بالحزن والدعاء «لقمان»، مؤسس (عرب نيوز) أول صحيفة سعودية إنجليزية، ظل توزيعها يتخطى الحدود ليصل إلى أغلب دول الشرق الأوسط. كان أول من عمل بها وأدار تحريرها كركن من أركانها المضيئة على مدى سنوات قبل أن يحال إلى التقاعد. وبين لحظة التقاعد عام 2012 ولحظة البدايات البعيدة، أيام وأوقات ظلت عامرة بالشغف الصحفي والترحال لإرضاء هذا الشغف. تجول في أنحاء العالم باحثا عن الحكاية والمقابلة والطرفة وقصص صانعي الأخبار. التقى عشرات القادة والسياسيين، «أنديرا غاندي وفرديناند ماركوس، الزعيم الفلبيني المسلم نور مسوري، بي نظير بوتو، رؤساء حكومات، ومئات من الذين تركوا بصماتهم على المسيرة الإنسانية أينما كانوا». وأطلع القارئ على آلاف المقالات التي كان ينشرها في صحف الشرق الأوسط والاقتصادية والصباحية الدولية والاتحاد الإماراتية وأكتوبر والأيام اليمنيتين. وضمنها في الجزأين الأولين من كتاب عالم بلا حدود وكتاب توابل هندية المكون من ثمانين حكاية عن الهند وحدها.

لم يكتف فاروق لقمان، بعمله الصحفي الروتيني الذي يتقنه بلداء الصحفيين، في مذكراته الماثلة للطبع بجهود ابنته التي سارت على خطاه في العمل الصحفي الزميلة يمن لقمان، وسترى النور قريبا يقول، ملخصا سمات الصحفي الحقيقي ومحددا ملامحه: «أكبر نقاط الضعف عندي أنني لا أكتب أو أحرر ما يكتبه الآخرون، ولا أعتني تحريريا بأخبار الوكالات والمراسلين، أتجه نحو القراءة وأمامي شاشة مفتوحة 24 ساعة تمدني بكل أخبار جميع الوكالات باللغتين، أقضي أمامها معظم ساعات يومي بالإضافة إلى قراءاتي في البيت أو الطائرة أو القطار أو حول حمام السباحة في الفنادق. وساعدتني المهنة على نيل أي مادة أو كتاب لفت نظري، كما ساعدني كل من الهاتف والكمبيوتر على الاتصال بأي مصدر معلومة أو صانع خبر علمي أو سياسي أو أكاديمي، وددت أن يزودني بها، فإذا أعجبتني معلومة وجذبت اهتمامي أشعر برغبة جامحة لنقلها إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ولا بد من الاعتراف بأني تأثرت في ذلك أيضا بالصحافة الغربية التي لا تتردد في نشر المعلومة على الصفحة الأولى حتى وإن كانت تخص حشرة تميل إلى التهام زوجها إذا تودد إليها أكثر مما يجب». تلك هي رؤية المعلم، ابن «محمد علي لقمان» صاحب أول صحيفة تصدر في شبه الجزيرة العربية، سليل الأسرة العدنية العريقة في الصحافة، والذي ظل على مر السنين الماضية بمثابة العمود الفقري لتحرير عرب نيوز. بالأمس غربت شمس جدة، وجثمان فاروق لقمان يوارى الثرى، معلنة غروب مسيرة رجل سيظل في ذاكرة قراء «الشرق الأوسط» التي أشرقت أواخر الثمانينات الميلادية حين أطلقت عموده اليومي «عالم بلا حدود»، الذي لاقى نجاحا كبيرا في كسب ثقة القراء، ومثل -بحسب- ناشري الصحيفة «المدرسة الصحفية الحديثة في كتابة العمود اليومي»، ليكون من أنجح الأعمدة اليومية في الصحافة العربية. بالدموع والدعوات والذكريات الطيبة قال الجميع: وداعا فاروق.