تعتبر خطبة يوم عرفة هي المنهج الخطابي لشرح مفاهيم الإسلام وتعاليمه، منذ اعتلى منبر عرفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، مبينا للأمة الإسلامية تعاليم الإسلام. فكانت حجته الفريدة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام، «فلعلّي لا ألقاكم بعد هذا اليوم اللهم فاشهد اللهم فاشهد»، وفعلا بلغ نبينا الحبيب الرسالة ونصح للأمة وأدى الأمانة ورحل إلى جوار ربه وقد اكتمل الدين، حتى نزلت عليه في ذلك اليوم العظيم «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».

هنا تتجَلّى معاني الإسلام واكتمال أركانه الخمسة في وقفة عرفة، التي شهدها آلاف المسلمين مع رسول البشرية، عليه الصلاة والسلام، معلنا على الملأ حقوق الناس أجمعين. وجاء من بعده الخلفاء والأمراء على مرَّ التاريخ الإسلامي، يُولُون خطبة عرفة أهمية خاصة، كونها ترسم معالم الدين، ويبين فيها إمام المسلمين الواجبات والحقوق، التي يتذكرها الحجاج وعموم المسلمين من خلال منهج وأسلوب الخطبة السنوية، التي بدأت تأخذ ميزة تتجلى في اختيار الخطيب وأسلوبه وكيفية معالجته لقضايا الأمة وفق ما يراه ولي أمر المسلمين. فمثلا في عهد الدولة السعودية الحديثة أخذت خطبة عرفة اهتماما من جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وحتى جاء الملوك من بعده، وصولا لعهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، وفقه الله، وأنت ترى عناية فائقة بإعطاء أهمية لهذا المنبر النبوي، الذي تنقله الفضائيات. ورأينا اهتمام ملوك هذه البلاد باختيار الخطيب، وتقول الروايات التاريخية إن عدد خطباء مسجد نمرة من عام 1343 حتى عام 1439، تسعة خطباء ينتمون إلى أسرة آل الشيخ، بمن فيهم سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، ومعالي الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، إمام وخطيب المسجد الحرام والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومعالي الشيخ سعد بن ناصر الشثري عضو هيئة كبار العلماء والمستشار بالديوان الملكي، والشيخ د. حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ، الذي خطب العام الماضي، وهذا يدل دلالة مؤكدة أن خطيب مسجد نمرة له الأولوية في توجيه ولي أمر المسلمين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، مراعاة لجوانب كثيرة منها عالمية المنبر وقدسية المكان والزمان، وينال هذا الشرف المبارك مَن وفقه الله وأعانه لاختيار الموضوع وحسن الأسلوب والطرح المعتدل، الذي يبرز سماحة الإسلام والوسطية، ويؤكد على اعتزاز بلاد الحرمين المملكة العربية السعودية بخدمة الدعوة وإيصال الكلمة الصادقة المعتدلة، إلى ربوع الدنيا في مشهد عرفات الذي يضم في جنباته اليوم قرابة ثلاثة ملايين مسلم يؤدون فريضة الحج. ومما يحرص عليه ولي الأمر في الاهتمام بهذه الخطبة الشهيرة بمسجد نمرة، عناية الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، أن تكون هذه المناسبة بحق عالمية الصوت وبكافة اللغات المسموعة والمكتوبة، فقد أعدت كما نشاهد الرئاسة العامة للحرمين، إدارة مختصة تعنى بالترجمات الفورية داخل وخارج عرفات وباللغات العالمية، وأعلن الشيخ عبدالرحمن السديس حرصه على تنفيذ توجيهات القيادة بأن تخرج هذه الخطبة من مسجد نمرة مفْهُومة مترجمة، إلى كافة أرجاء الدنيا، تحقيقا لمبدأ عالمية الإسلام. نسأل الله للحجاج القبول، وأن يعودوا سالمين غانمين إلى بلدانهم مغفورا لهم.