لعل ما تسجله الدول المتقدمة من إنجازات تنموية مختلفة يجعلها جديرة بالإشادة والتقدير، ويؤهلها لتكون قدوة يُحتذى بها، وأنموذجا يستحق المحاكاة، وما تقدمه تلك الدول من مشاريع وبرامج تنموية، ترجمت دراسات وخططا تنموية ناجحة، لهو جدير بالمتابعة والدراسة، للاستفادة من تلك التجارب العالمية التي بلورت رؤاها وخططها التنموية إلى برامج مُنفذة فعليا ومشاريع حيّة، أثبتت نجاحها الميداني على مستوى العالم، وذلك في حد ذاته لا يُعد مكسبا لتلك الدول فحسب، لكونها حصدت ثمارها التنموية بشمولية واستدامة، وإنما هو مكسب لجميع دول العالم النامي والمتقدم، التي تحتاج لمن يقدم لها أنموذجا أثبت نجاحه، ليختزل لها التجربة والجهود والنفقات، ويقدم لها النجاح المضمون لمشاريعها الخاصة وخططها التنموية على طبق من ذهب.

لقد أثبت التعليم في السويد تقدمه وتميزه الذي يستحق به أن يكون أنموذجا تستفيد منه الدول الأخرى المهتمة بتطوير برامجها التنموية وتحسين مستوى منجزاتها. تعتمد سياسة تنفيذ المنهج التعليمي في السويد على فلسفة يتمحور برنامجها حول الاهتمام بالتربية والتعليم على قدم المساواة، وذلك ينطلق من مفهوم وفلسفة تُؤمن بأن التزويد بالمعرفة والعلم فقط، لن يؤتي أُكله إذا أُهملت التربية بجميع مضمونها القيمي والصحي والاجتماعي والنفسي، ولذلك فإن المنهج التعليمي عندهم اعتمد على تعليم الأطفال منذ مرحلة الحضانة المبكرة والتي تبدأ بعمر «سنة»، أهم القيم السلوكية والمجتمعية التي تبني لديهم آداب السلوك المجتمعي العام، وتزرع فيهم الأساسيات المختلفة من الأخلاقيات السوية الراقية، التي تؤسس لمجتمع سوِيٍّ متصالح مع نفسه ومع الآخرين، وقادر على العطاء المثمر والمستدام.

يهتم التعليم في السويد باكتشاف مهارات كل طفل منذ مرحلة الحضانة، ويعمل على رعايتها وتنميتها، لإيمانهم بأن الجميع مبدعون ولا يوجد أحد فاشل أو قاصر، إذا عرفنا كيف نوجههم لما يحبون ولما يتمكنون من أدائه، طالما أن لديهم إمكانات التعلم، وقادرون على المعرفة، وخلال تلك المرحلة التي يعتمد فيها التعليم على اللعب، لأنه الوسيلة المحببة لتلك المرحلة العمرية، يتم تعليمهم مجموعة من القيم والمهارات الحياتية، كأهمية النظام والنظافة والترتيب، ومفهوم الديمقراطية، والمشاركة، والعدالة والمساواة، ومعلومات أخرى عن حقوق الطفل باعتبار أن كل طفل من حقه الاحترام كالكبار، فلا يمكن للمعلم/ة أن يتعدى على الطفل باللفظ، أو أن يُشعره بأنه أقل من غيره، أو أن يبدي اهتمامه بطفل دون الآخر، أو أن يهمله لعدم تفاعله لأي سبب كان، فذلك يتم معالجته بشكل جانبي بعيدا عن الآخرين، وبأساليب خاصة مقننة، وذلك جميعه في إطار من التعامل الحازم وبأساليب تربوية تُتبع، مع كل من لا يلتزم بالأنظمة أو يتعدى على غيره.

ويستند التعليم في فلسفته التربوية على توفير بيئة ملائمة محفزة على تلقي المعارف والقيم، وحريصة على أن يكون النظام التعليمي أنموذجا يطبق القيم والمعارف ميدانيا في بيئته المدرسية، حتى لا تكون شعارات مُعلنة ومبادئ يتم تلقينها جزافا، دون ممارسة حقيقية لمفهوم تلك القيم، ولذلك فإن الأمان والراحة النفسية للطالب هي الأولوية الأولى في المدارس في السويد، ويتم الانتباه لها وممارستها في جميع الأنشطة والمناهج والبرامج المدرسية، إذ تعمل إدارة المدرسة مع المعلمين على توفير بيئة آمنة للطالب، تجعله يشعر بالثقة والأمان في المدرسة، كما توفر المدارس مسؤولين اجتماعيين للطلاب يمكنهم دوما الحديث معهم ومساعدتهم.

وتُعد الرعاية الصحية جزءا لا يتجزأ من التزامات التعليم نحو توفير بيئة مدرسية سليمة وصحية، إذ تقوم كل مدرسة بتوفير ممرضة أو ممرض للطلاب، يقوم بالمتابعة الدورية الصحية لجميع الطلاب، كما يقوم بإجراء أي فحوص شاملة لأي مرحلة عمرية تطلبها الدولة، ويقوم كذلك بإعطاء التطعيمات أحيانا، ويتم اللجوء للممرضة في حال حدوث، أي حوادث أو عوارض صحية للأطفال في المدرسة، بينما يقوم طبيب بزيارة المدرسة بشكل دوري، لمتابعة سير الأمور الصحية، ومعالجة أي قضايا صحية خاصة تستدعي تدخله.

واستكمالا لالتزام التعليم بمسؤولياته التربوية والاجتماعية بالمحافظة على صحة الطلاب، فإن المدارس توفر مطعما خاصا للطلاب داخل المدرسة، إذ لا توجد في مدارس السويد (بوفيهات) أو (مقاصف) في المدارس، بل يوجد مطعم رسمي، يتم فيه توفير وجبات الغذاء للطلاب مجانا، ومما تجدر الإشارة إليه أن عائلة كل طفل تقدم عادة عند انتساب طفلها إلى الحضانة، أو المدرسة، قائمة بالأكلات التي لا ترغب بأن يتم تقديمها لطفلها «إن وجدت»، إما لأسباب صحية أو دينية، فتقوم إدارة المدرسة أو الحضانة بالحرص على تجنب تقديم هذه المأكولات للطفل، وبالتالي لا يحمل الطالب معه أي مصروف أو نقود حينما يذهب إلى المدرسة، لأنه لن يحتاجها.

أما نظام التعليم وآليته فيعتمد على تشجيع الطلاب على التفكير، وليس التلقين من طرف واحد، كما يتم تشجيعهم كذلك على نقد الأفكار التي تُطرح عليهم، ويعتمد المنهج على أن يحاول الطالب إثبات فكرته أو نظريته، بالحجة والمنطق، أو بالتجربة، لأن ذلك يُعلِّم الطالب أساسيات التفكير، والانتقاد، وطرق التوصل إلى المعلومة الصحيحة.

ويعتبر التعليم الأساسي في السويد إجباريا وإلزاميا لعشر سنوات تبدأ من السنة التمهيدية، والتي يلتحق بها الطالب عندما يبلغ السادسة من العمر، ويتعرض الوالدان للمساءلة إن لم يلتحق ابنهم بالتعليم في هذه المرحلة، أو كثر غيابه، لأن هذا يعتبر إخلالا بحق الطفل في التعليم.

ولعلنا نتساءل عن الجهة المسؤولة عن تمويل ذلك التعليم الأساسي بجميع مضمونه العلمي والترفيهي والصحي، لنجد أن الضرائب هي الممول الكامل للتعليم الأساسي، بدءا من الحضانة ومرورا بالسنة التمهيدية وحتى نهاية الفصل التاسع، ولذلك لا يدفع أولياء أمور الطلاب أي رسوم أو تكاليف مهما بلغت، ويشمل ذلك حتى تكاليف الرحلات المدرسية، بل وتقوم المدرسة بتوفير كل الاحتياجات الدراسية للطالب من كتب ودفاتر وأقلام وغيرها، وعادة ما يترك الطالب كل كتبه ودفاتره وأدواته في المدرسة ولا يأخذها إلى البيت! ولعله من المفاجئ بأن ذلك الترف لا يقتصر على المدارس الحكومية، وإنما يشمل حتى المدارس التي يديرها القطاع الخاص، فهي أيضا مجانية وخالية من الرسوم، لكي لا يكون التعليم تجاريا وعقيما، بل وتتّبع جميع المدارس مناهج دراسية موحدة.

وفي ضوء ذلك الاستعراض المختصر لبعض مميزات التعليم وسماته العامة وفلسفته التربوية في السويد، كإحدى الدول المتميزة في نظامها التعليمي، وفي سياستها الخاصة بالتعليم الأساسي، وفي فلسفتها التربوية التي استندت على بناء المعرفة وغرس القيم والمبادئ المجتمعية منذ نعومة الأظافر، لتحصد موارد بشرية مثمرة، تعكس فلسفة التعليم الذي تأسست به فكرا وقيما وسلوكا وعطاء وتميزا، فهل لنا أن نستفيد من هكذا تجارب دولية بالمحاكاة؟! أوليس ذلك أفضل من ابتداع أساليب عشوائية أو خطط تعليمية وتنموية لم يثبت نجاحها؟!