سبق في القسم الثالث من هذا المقال الحديث عن خصوصية النشأة، وخصوصية التاريخ، للمملكة العربية السعودية، وفي هذا القسم الرابع سنتحدث عن خصوصية المعتقد، وخصوصية المكان، وخصوصية المواطن، في المملكة:

أما خصوصية المعتقد: فإن السعودية هي الدولة الوحيدة في تاريخ الإسلام بعد العصر الراشد التي قامت على مبدأ تصحيح المعتقدات، وإعادة الإسلام إلى ما كان عليه في زمن السلف الصالح، ونبذ الخرافة، وتخليص الدين منها، وتعظيم النصوص الشرعية وفتاوى السلف الصالح وبعث تراثهم في العقيدة والفقه والسلوك.

فالدولة الأموية قامت على عصبية البيت الأموي، ثم العصبية النزارية، والدولة العباسية قامت على العصبية الهاشمية والفارسية، والدولة البويهية قامت على العصبية الشيعية الزيدية، والسلاجقة قاموا على العصبيَّة التركية. وكل تلك الدول كلما ابتعدت عن العصبية التي استندت إليها ذهبت ريحها، فالأمويون حين ضعف بسبب عوامل عدة اعتزازُهم بأمويَّتهم ونزاريتهم، واستبدلوا القحطانيين بالعدنانيين، وجنحت الدولة عن عقيدة السلف إلى مذهب الجهمية في عهد مروان بن محمد، كان ذلك نهاية أمرهم، وحين استبدل العباسيون الترك بالفرس، وضعفت مناداتهم بالهاشمية، أو لِنَقُل: ملَّ الناس هذه المناداة التي لم يكن لها أثر على المتأخِّرين من حكام بني العباس، أصبحت دولتهم اسمًا لا تأثير له في الواقع، وحين لم يستطع البويهيون الجمع بين الدولة والتشيّع والولاء السياسي لبني العباس، والولاء المذهبي لآل البيت تلاشت دولتهم، أما السلاجقة فقد كان لهم عدد من الإمارات، لكل واحدة منها عوامل للسقوط تختلف عن الأخرى، لكن ربما كان الجامع بينهن: العصبية التركية، التي انتفعوا بها حين كانت دولتهم في فارس وبلاد الترك، أما حين امتدوا إلى الشام فقد كانت عصبيتهم تلك داعية للتفرق عنهم. على أن الدولة الزنكية كانت ذات أثر كبير في إحياء جهاد الصليبيين وإحياء علوم الشريعة، وكان لعلوِّ نجم صلاح الدين الأيوبي في قتال الصليبيين إثر خفوت نجم السلاجقة في ذلك بعد وفاة نور الدين زنكي، أقول: كان لذلك أثر في سقوط الدولة وتحوُّل أنصارها إلى صلاح الدين.

وقد تكون دولة المرابطين قريبة الشبه بالدولة السعودية من حيث كونها قامت لتصحيح عبادات الناس وتعليمهم، وهي أيضا حين تخلَّت عن هذا المنهج وبدأت جماعة الموحِّدين تأخذ دورهم في طلب العلم والتعليم، عندها سقطت دولة المرابطين بسهولة لم يتوقَّعها أحد، وأَخذ مكانَها الموحِّدون في جميع مناطقها.

فابتناء الدولة السعودية على عقيدة السلف وفقههم ليس خصيصة سعودية على دول العصر الحاضر، بل قد تكون خصيصة تميِّزها عن كثير من دول التاريخ الإسلامي.

وليس ما نقوله هنا جحدا للكثير والكثير من الخير والبناء والإنجاز الذي أحرزته الدول الإسلامية على مدى التاريخ، ولكن كما نذكر فضائل الدول الماضية نذكر ما منَّ الله به على دولتنا من الفضائل.

ورغم فتاوى التكفير التي تعرضت لها الدولة السعودية الأولى من قِبَل علماء العثمانية، وبالرغم من المذابح التي تعرَّضت لها، إلا أنها ظلَّت محافظة على هذه المبادئ التي قامت على أساسها في طورها الأول والثاني والثالث، لم تتراجع عن شيء منها، وها نحن نعيش في عهد سابع ملوك طورها الثالث ونظامها الأساسي للحكم ينصّ على بقائها على ما أُسِّست عليه قبل قرابة الثلاثمئة عام.

ولا شكَّ أن ما قامت به الدولة العثمانية زمن السلطان محمود الثاني من حرب الدولة السعودية الأولى كان بسبَب معتقدِها الأصيل، تخلُفُها فيه اليوم دولُ الغرب، وتستخدم الذريعة نفسها التي استخدَمتها الدولة العثمانية من قبل لتبرير حربها التي لا تمتّ للدين ولا للأخلاق بصلة، للدولة السعودية راعية التوحيد وتجديد الدين ونبذ الخرافة، وأعني به: الرمي بالتكفير، فالمؤسَّسات الأوروبية والأميركية تتحرَّك في ضغوطاتها على دولتنا وفق هذا المحرِّك الذي دعمتهم فيه عصابات الإرهابيين التي ما فتئت تزعم زورا الانتساب لعلماء هذه الدولة ودعوتها.

أما خصوصية المكان: فتتمثل في معظم مساحة جزيرة العرب التي يئس الشيطان أن يعبد فيها كما هو قول رسول الله ﷺ، ومنبع الإسلام ومنطلق جحافل الفتوح الإسلامية. ‏وفيها أقدس مدينتين على وجه الأرض، كما هي مُنْطَلَق دعوة التجديد العظيمة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التي -بفضل الله عليها وعلى الناس، ثم بفضل نصرة الإمام محمد بن سعود لها- كان لها أكبر الأثر في النهضة الفكرية والتحرُّرية الحديثة في العالم الإسلامي. وهذه الخصوصية تُحَمِّلُنا دولة وشعبا مسؤولية حملِ تُرَاث الأُمَّة ونشره.

أما خصوصية المواطن: فإن أبناء السعودية بحواضرهم وبواديهم هم ورثة أوَّل المسلمين وطلائع الفاتحين الذين حمل آباؤهم على أكتافهم نشر الإسلام بالدعوة والقدوة، وكوَّنوا دولة الإسلام الأولى من الصين حتى فرنسا، هم نسل أصلابهم وورثة دينهم وقيَمهم وأخلاقهم، هكذا ينظر المسلمون إليهم في العالم، بل هكذا ينظر إليهم العالم أجمَع، وكما أنهم ورثتهم في الأرض فهم أصدق الناس انتماء لهم من حيث النسَب والخِلْقَة والطبائع، وأقربهم إليهم من حيث بيئة النشأة، وكل ذلك يؤكِّد على أنهم الأقدَر على حمل صفاتهم وأخلاقهم التي نشروا بها الإسلام قبل أن يقفوا تحت ظلال سيوفهم.

ختاما: ليس المقصود من ذكر الخصوصيات التفاخُر بها، بل التذكير بمسؤوليتنا تجاهها، مواطنين ومسؤولين وإعلاميين وقادة. ‏إن حفاظنا عليها حفاظ على أصولنا التي كانت سبب وجودنا وانتصارنا. أدام الله علينا خير هذا الوطن، أمنه ووحدته في ظل شرعه وقيادته، وكفانا شرّ أنفسنا وشر كل من يريد بنا شرًّا.