لم تَعدْ نظريات الاقتصاد الكلي قادرة على تأطير وتحليل الواقع الاقتصادي الذي تشهده الساحة الاقتصادية العالمية الآن، بما يطرأ على المشهد الاقتصادي من تغيّرات جذرية حفَّزتها التقنية المتقدمة، وتنامي اقتصادات المعرفة، وانتشار التوجه الرقمي والتعاملات الإلكترونية، وهو ما أخلّ بالمفهوم التقليدي للأسواق، وطبيعة بناء النظرية الاقتصادية في افتراض حالات مرجعية يمكن الإسقاط عليها نظرياً لفهم الواقع وتأطيره وتحليله.

هذه هي المتغيرات الأساسية التي أسهمت في حدوث التغيُّرات الجذرية، إلاَّ أن هناك جانبا آخر قد يكون تأثيره أشد وأقوى، بحكم أنه هو الذي يسيطر على الجانب التنفيذي لأي إستراتيجية اقتصادية تهتم بالجانب الكلي من الاقتصاد، ذلك الجانب هو ما يتعلق بسيطرة السياسة على الاقتصاد، فبعد أن كانا يشكلان ما يشبه العلاقة الزوجية الراسخة التي وإن تقاطعت وسائل التعامل بين طرفيها أو تباينت، إلاَّ أنها في النهاية تتقارب في الهدف وتتفقان عليه، لذلك تجد بينهما حالات من التجاذب تطغى على التنافر والإقصاء، وكان ذلك كفيلاً بخلق نوع من التوازن، قد تميل كفتة إلى الجانب الاقتصادي، عندما تكون الحجة هي المعيار في التفضيل، حيث تتلاشى الغواية السياسية.

لكن السؤال الذي يُطرح الآن على الساحة الأكاديمية الاقتصادية، وهو ما يعني تأثيراً مباشراً على أدبيات الاقتصادية الحديثة، هل ما زالت السياسة تحمل في جيناتها المخلَّقة الجديدة التي خرجت من رحم أزمات عالمية، أخفقت السياسة في استيعابها وتحجيمها، فكبرت وترعرعت وأفرزت ظاهرة عالمية مقلقة هي الإرهاب الذي رسم معالم الساحة السياسية، وأخرجها من عقالها، وجعلها كوحش كاسر يمتلك القوة وليس العقل، وبالتالي سيطرت السياسة على المشهد وأخذت بزمام الأمور وتوارت جراء ذلك الحكمة الاقتصادية، ولم يعد الاقتصاد قادراً على أن يمسك بزمام الأمور.

ولما كانت نظريات الاقتصاد الكلي هي المعنية بهذا البعد الاقتصادي العلمي لتأصيل الوجود الاقتصادي، فإنها أصبحت غير قادرة على تأطير وتحليل الواقع الاقتصادي الذي تشهده الساحة الاقتصادية العالمية الآن.

هذه رؤية قد تبدو بسيطة، لكنها في واقع الأمر تلقي ضوءاً يحاول أن يشير إلى طريق يجدر أن نسلكه حتى يعود إلى العالم استقراره، ويعود للشعوب رفاهها الذي لا يمكن أن يحصل عليه بعيداً عن الاقتصاد.