شكّل إسقاط الطائرة الأوكرانية بصاروخ من الحرس الثوري الإيراني أحدث وسائل قتل الإيرانيين، بعد مقتل 56 آخرين خلال تشييع الهالك قاسم سليماني. وكانت حصيلة الضحايا الإيرانيين على الطائرة الأوكرانية أكثر من 86 ضحية، إضافة إلى العشرات من كندا والسويد وبريطانيا، فضلا عن 1600 قتيل وآلاف الجرحى من الإيرانيين، الذين سقطوا في المظاهرات التي اندلعت في 15 نوفمبر الماضي. وفي كل هذه الأحداث كان قاسم سليماني هو «القاسم المشترك» في قتل كل هؤلاء.

فالمعروف أن سليماني هو من هدّد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي عندما اندلعت مظاهرات الطلاب في طهران عام 2009، وقال له «إذا كانت حكومة خاتمي عاجزة عن سحق الطلاب فإن الحرس الثوري جاهز لهذه المهمة»، وفي كل المظاهرات الإيرانية التي اندلعت بعد ذلك في 2009، وشتاء 2017-2018، وصولا إلى مظاهرات نوفمبر الماضي، كان سليماني هو من يقمع هذه المظاهرات

نموذج في القتل

لكن نموذج سليماني في قتل وسحق المتظاهرين لم يتوقف على الأراضي الإيرانية، بل وصلت أفكار سليماني إلى دول الجوار الإقليمي.

فلا يشك أحد اليوم أن إيران تحولت من «تصدير الثورة» المزعومة إلى «تصدير القمع»، فالنموذج القمعي الإيراني في قمع المظاهرات بدأ يتحول تدريجيا إلى منهج للقمع والتنكيل في دول الجوار، التي تمارس فيها طهران نفوذا كبيرا، مثل العراق ولبنان وسورية واليمن.

ففي يوم واحد قتلت الميليشيات الموالية لإيران أكثر من 25 متظاهرا في ساحة الخلاني العراقية، وزاد عدد الضحايا لأكثر من 450 قتيلا على يد «الطرف الثالث الإيراني» منذ بدء المظاهرات في بغداد ومحافظات الجنوب، لكن القمع في الأيام الأخيرة أخذ طابعا جديدا، تمثل في خطف الناشطين العراقيين وتصفيتهم جسديا، سواء من ساحات التظاهر أو من منازلهم.

رفض الهيمنة الإيرانية

تدرك إيران أن المظاهرات في لبنان والعراق هي رفض للنفوذ الإيراني المتصاعد على بغداد وبيروت، ويرى حكام الملالي أن نجاح المتظاهرين في دول الجوار على النخبة السياسية التي تدعمها طهران، سيؤدي إلى تقوية زخم المظاهرات التي بدأت منتصف نوفمبر 2019، ولذلك حرصت إيران على نقل إستراتيجيتها في قمع المظاهرات إلى زعماء الميليشيات في لبنان والعراق، أملا في وقف الموجة الجديدة من الاحتجاجات عبر مجموعة من الآليات:

أولا: الخطف والاختفاء القسري، فوفق تقارير منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الحقوقية، فإن خطف الناشطين من ساحات التظاهر أو من منازلهم بات سياسةً ثابتة تمارسها إيران، وأصبح الخطف منهج الميليشيات الإيرانية في ساحات التظاهر في بغداد وبيروت، ورغم عدم وجود إحصاءات دولية أو محلية حول عدد المختطفين، إلا أن المتظاهرين في العراق أكدوا أن الظاهرة في تزايد كبير، وهو ما دفع كثيرا من المحتجين لعدم العودة إلى منازلهم والبقاء في ساحات التظاهر، لأن اختطافهم من الميادين أصعب بكثير من الخطف من المنازل، وقد يؤدي هذا دون أن تدرك إيران إلى زيادة قوة المظاهرات، لأن الخيار الوحيد أمام المتظاهرين هو البقاء في ساحات التظاهر والاحتماء بزملائهم وليس العودة إلى المنازل.

كما تحول الخطف -خلال الأيام الماضية- إلى الصحفيين والإعلاميين الذين يحاولون نقل الحقيقة إلى العالم، وهي إستراتيجية إيرانية ثابتة مارستها ضد الصحفيين الإيرانيين في الداخل، وتسعى ميليشياتها إلى تطبيقها في العراق واليمن. ففي صنعاء مارست الميليشيات الحوثية الخطف والتنكيل بأي صحفي أو ناشط يعارض الجماعة الحوثية الإجرامية، كما أن تعذيب الصحفيين وقتلهم دون أن يعلم ذووهم أي شيء عنهم، هو سيناريو دائم لدى الحوثيين والميليشيات الإيرانية في المنطقة، خاصة ما يسمى بـ«حزب الله» العراقي، الذي تشير تقارير دولية وأمريكية إلى أنه يمارس كل أنواع الخطف والقتل بحق المتظاهرين العراقيين.

ثانيا: استخدام السلاح الأبيض، وهو تكتيك إيراني بامتياز، إذ كشفت المعلومات أن كثيرا من المتظاهرين الذين قتلوا في المدن الإيرانية كان بالسلاح الأبيض إلى جانب الذخيرة الحية، وشهدت الساعات الأخيرة مقتل كثيرين بالسلاح الأبيض، وتحاول الميليشيات الإيرانية في العراق من خلال استخدام هذا السلاح، بثَّ الشقاق والخلاف وعدم الثقة بين المتظاهرين وبعضهم.

وتداول ناشطون عراقيون قصصا مروعة حول العثور على قتلى بشكل مفاجئ بين المتظاهرين، عن طريق الطعن الذي بات أمرا مألوفا في العراق، وتُظهر طريقة الطعن «المميت» أن الجماعات التي تنفذ هذه الاغتيالات بالسلاح الأبيض تلقّت تدريبا على هذا النوع من القتل، وهو ما اعترف به أحد قادة الميليشيات العراقية عندما قال، نحن هناك في ساحات التظاهر وسنبقى حتى يتم إخلاء الميادين، لذلك لجأت مجموعات الحشد إلى السلاح الأبيض، لأنه يمكن إخفاؤه، ودخول ساحات المظاهرات والخروج منها دون علم قادة التظاهر، وهذا السيناريو تكفلت به قوات «الباسيج» الإيرانية، عندما قتلت مئات المتظاهرين الإيرانيين في طهران ومشهد ومناطق الأهواز والاذاريين.

ثالثا: التخويف والترويع، وهذا واضح بقوة في العراق ولبنان، إذ قامت ميليشيا حزب الله اللبناني وحركة أمل المتحالفة معها، بتخويف وترويع المتظاهرين، وفض خيامهم ومنعهم من البقاء في الطرقات الرئيسية، كما اشتبكت قوات أمل وحزب الله مع المتظاهرين السلميين، وبات من المألوف أن تطلق مواكب الميليشيات العراقية المتحالفة مع إيران النار بكثافة أمام ساحات التظاهر، بغرض ترويع وتخويف المتظاهرين للعودة إلى بيوتهم، فكل المعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام العراقية تشير -بوضوح كامل- إلى أن ميليشيات الحشد الشعبي -وعبر عناصرها الملثمة- هي من تقتل المتظاهرين، وأحيانا تقتل عددا من الشرطة لخلق حالة من الاستنفار بين المتظاهرين والشرطة، وأن إستراتيجية الحشد التي تلقاها وتعلمها من «قاسم سليماني تقوم على قتل أكبر عدد من المتظاهرين حتى لا يخرج متظاهرون جدد للشارع»، لإدراك إيران أن سقوط الطبقة السياسية الحالية في بغداد وبيروت هو نهاية للنفوذ الإيراني، خاصة أن كل المؤشرات تؤكد تلاشي وتآكل الحاضنة الاجتماعية والسياسية للأحزاب الموالية لإيران في العراق ولبنان.

نعم، قد يكون العالم تخلص من قاسم سليماني، لكن النموذج الذي خلفه في القتل والتنكيل والوحشية بالآخرين، سيظل جاثما على شعوب العراق ولبنان واليمن وسورية، إذ نقل قاسم سليماني -قائدُ ما يسمى فيلق القدس- «كتالوج الخطف» والقتل والتخويف إلى زعماء الميليشيات الإيرانية التي عاثت قتلا وخطفا بحق أبناء وبنات الشعبين العراقي واللبناني، ومن قبل الشعبين السوري واليمني، وهو ما يقتضي تدخلا عاجلا لحماية المدنيين من بطش وعدوانية الميليشيات الإيرانية في البلدان العربية.