حينما كان الإنسان لا يكترث إلا لطقسٍ قاسٍ يدق عظامه، أو لضارٍ مفترس ينهش أعضاءه، وحينما كانت أدواته العظيمة قداحة تضرم ناره، وحجرٌ مسنن يجلب طعامه، لم يكن ثمة جندر البتة. الكل إنسان، والكل سواء. الملكية الخاصة وفائض الإنتاج، هما وحدهما من أفسدا المعادلة، وأفسدا الحياة، حيث يشير تقرير نشر في موقع كيوبوست بعنوان «كيف أسهمت الزراعة في تشكيل المجتمع الطبقي وهزيمة المرأة؟!»، إلى أن الإنسان قبل اكتشاف الزراعة كان يتحرك في مجموعات صغيرة لا ينفك عنها، ليضمن أمنه ومأكله ومشربه، بلا فروقات أو امتيازات، الكل متساوٍ، لا أحد أفضل من أحد، ولا مكان للنزعة الفردية، أو النزعة الجندرية.

وباكتشاف الزراعة قبل عشرة آلاف سنة تقريبا، كانت مرحلة فاصلة تشكلت على إثرها الطبقية مع مرور الوقت، نتيجة عاملَين، هما: الملكية الخاصة التي ظهرت بسبب الاستقرار في مناطق محددة أصبحت فيما بعد قرى صغيرة، وبدأ الناس في زراعة أراضيها والارتباط بها، مما أدى إلى تشكيل مدونات للتملك، لمنع نشوب الخلافات، وهنا ظهر مَن يملك ومَن لا يملك. والعامل الثاني: هو فائض الإنتاج الذي دفع إلى التفكير في تقسيم العمل، إذ لا حاجة أن يعمل الجميع بالزراعة، وهنا بدأ تشكل الطبقية والتمايز بين البشر.

ويعتقد كثيرون أن المساواة بين الرجل والمرأة فكرة وليدة العصر، لكنهما في الحقيقة تساويا خلال عصور سابقة في الحقوق والواجبات، وحسب دراسة أشار إليها التقرير أُجريت في جامعة كوليدج في لندن، يقول مارك ديبل -عالم الأنثروبولوجيا- الذي قاد الدراسة «مع ظهور الزراعة فقط، عندما بدأ الناس في تخزين الموارد، ظهر عدم المساواة».

فالرجل كان يصطاد الطرائد بينما المرأة تجمع الثمار، ليشكلا السلة الغذائية للمجموعة، فكانت المهام متساوية بين الجنسين وبالتالي غابت الفروقات.

بقيت الحال على ما هي عليه حتى قيام المجتمع الطبقي الذي بدأ بالثورة الزراعية، إذ فقدت المرأة سيطرتها على نفسها، وأصبحت مضطهدة ومستغلة نتيجة شكل المجتمع الطبقي الجديد، ولكونها تنتمي إلى الجنس المهزوم، وَفقًا لوصف الفيلسوف الألماني فريدريك إنجلز.

ويذكر كريس هارمان في كتابه: «إنجلز وأصل المجتمع البشري، ترجمة: هند خليل كلفت، الطبعة الأولى، 2012، القاهرة، المركز القومي للترجمة»، تحت فصل: «أصل اضطهاد النساء»، بعض الأفكار في هذا الصدد جديرة بالتأمل منها: «لم يكن أصل العائلة يدور بطبيعة الحال حول ظهور الطبقات والدولة فحسب، لقد كان أيضا يدور حول أصل اضطهاد النساء. وتتمثل وجهة نظر رئيسة في أن النساء لم يكنَّ خاضعات للرجال حتى ظهور الطبقات، وأن أول تناحر طبقي ظهر في التاريخ يتزامن مع تطور التناحر بين الرجل والمرأة...، وأن أول اضطهاد طبقي يتزامن مع اضطهاد نوع الذكر لنوع الأنثى»، ص99.

ويذكر هارمان، حول استثناء المجتمعات الأسترالية البدائية تحديدًا من مسألة المساواة بين الأنثى والذكر، وانحيازه للذكر، وأن المجتمع القديم في أستراليا من نشأته يسيطر فيه الذكور على الإناث، بأن الاكتشافات الأحدث تشير إلى وجود أدلة على استقلال الإناث بشكل أكبر في تلك المجتمعات، متمثلة في المظاهر التالية: «مشاركة النساء في صنع القرارات، وزواج نساء أكبر سنًا من شبان أصغر سنًا، وتضامن الإناث المتصاهرات، والقسم الخاص بالنساء من المخيم كان غير مسموح للرجال بدخوله...إلخ»، ص 147، «هامش 172».

وفي الكتاب الرائع: «مقالات في النسوية، ترجمة ضحوك رقية، وعبدالله فاضل، الطبعة الأولى، 2015، دمشق، الرحبة للنشر والتوزيع»، ترجمة لمقال بعنوان «النساء: أطول ثورة، والذي نشر في ديسمبر 1966» لأستاذة التحليل النفسي ودراسات الجندر في جامعة كامبريدج، جولييت ميتشل، والتي حاولت من خلال كتابها الشهير «التحليل النفسي والنسوية. فرويد، رايش، لينج والنساء، 1974»، التوفيق بين التحليل النفسي والنسوية في حين اعتبر كثيرون أنهما متنافيان، غير أن ميتشل رأت أن رأي فرويد المنحرف عن الذكورة والأنوثة، يعكس حقائق الثقافة الأبوية، ونقدت بالتالي النظام الأبوي بذات نقد فرويد للأنوثة«.

وترى ميتشل، وهي ناشطة يسارية في فترة الستينات»أن المفكرين الاشتراكيين في القرن الـ19، أدركوا مشكلة تبعية المرأة والحاجة إلى تحريرها«، ص 14.

ونقلت عن شارل فورييه -أحد أكثر المدافعين عن تحرير المرأة بين الاشتراكيين- قوله:»إن التغيّر في مرحلة من مراحل التاريخ يمكن أن يحدده تقدم المرأة نحو الحرية، لأن علاقة المرأة بالرجل، علاقة الضعيف بالقوي.. إن درجة تحرر المرأة هي المقياس الطبيعي للتحرر العام«، ص 15.

ويمكن فهم تحرر المرأة في هذا الكلام، متى ما نزعناه من سياق مراد شارل فورييه نفسه، ووضع في سياق الحياة الطبيعية للإنسان السوي، بعيدا عن استجلاب النظرة الجنسية، واعتبارها هي المعيار لدى فصيل المعارضة، حين الحديث عن حرية المرأة.

وتشير ميتشل إلى هذا المعنى الذي ذكرتُه آنفًا حينما طرحتَ استحسان كارل ماركس لنظرة فورييه، والذي أعطاها -أي ماركس- معنىً أكثر شمولًا، حينما تجاوز بها النظرة الحيوانية المتمركزة حول الجنس، إلى المعنى الإنساني الأكثر عمقًا، فتنقل عن ماركس كما في»الملكية الخاصة والشيوعية 1844«، قوله:»علاقة الرجل بالمرأة هي العلاقة الأكثر طبيعية بين إنسان وإنسان. ولذلك فهي تشير إلى أي مدى أصبح سلوك الرجل الطبيعي إنسانيًا، وإلى أي مدى أصبح جوهره الإنساني جوهرا طبيعيًا له، وإلى أي مدى أصبحت طبيعته الإنسانية طبيعة له«.

وتشير ميتشل إلى تصريح إنجلز، بأن أول تضاد داخل الجنس البشري هو عدم المساواة بين الجنسين، وأول صراع طبقي ظهر في التاريخ يصادف التناحر بين الزوج والزوجة، ص 17، غير أن هارمان في كتابه السابق ص 148،»هامش 167«، يرى أن اضطهاد نوع الذكور لنوع الإناث كان متزامنًا»وليس الأول«مع أول صراع طبقي، وفي هذا فرق.

وتنقل ميتشل عن بيبل تلميذ إنجلز، قوله:»من بداية الزمان.. فالمرأة أول كائن بشري ذاق طعم العبودية، كانت المرأة عبدة قبل أن يوجد العبد»، ص 19.

ويقر بيبل مع ماركس وإنجلز، بأن الدونية الجسدية للمرأة هي المسؤولة عن تبعية المرأة.

وأُنوّه إلى أن استعراض وجهة نظر اشتراكية، يعني فقط أن الفكرة الصائبة التي آن أوانها يجب أن تؤخذ من أي أحد، مهما كانت صورته في مخيلتنا، ومهما كان رأينا سيّئًا عنه.

وأخيرا، من الطبيعي أن تقوم مقاومة نسائية شرسة جراء هذا ، وثورة على هذا التهميش، ومن الطبيعي والبدهي أن توجد هذه النسوية في المجتمع السعودي، جراء سلسلة التطورات المتسارعة في مجال المعرفة والتواصل الحي، والتفاعل الحر مع الثقافات والحضارات العالمية المعاصرة، فهو تأثر متوقع ومنتظر، ويجب ألا يستغرب ولا يعادى، ولا توضع أمامه العراقيل، بل لا بد من فهمه، والسير معه بسلاسة والتعاطي معه بمرونة؛ لتجنب الآثار السلبية التي قد تصل في نتائجها حد الكارثة، في حال التوقف والتعارك المجتمعي الثقافي حولها كأفكار شاذة أو ناشزة وغريبة على المجتمع.