منذ سقوط الدولة العثمانية وظهور حركات التحرر الإسلامية من الاستعمار، وما صاحَبها من الحركات السياسية الإسلامية وبتأثير عدد من العوامل، كانت الصورة المُثْلَى التي تُرَوَّج لعالِم الدين من قِبل الناشطين في الحراك التربوي والسياسي الإسلامي، أنه العالم المناوئ للسلاطين، المجافي لهم، الذي يضع أحوالهم مهما كانت حميدة محلَّ شك وريبة، وهو العالم الذي يبتعد عن ولايتهم وأعطياتهم ومجالسهم.

لا شك أن هذا الصنف من العلماء كان سائداً في القرون الثلاثة الأول بعد عصر الراشدين، ولم يكن هؤلاء ذوي توجه واحد، فمنهم من كان داعياً لتغيير المظالم بالقوة كما حصل من عدد من علماء أهل الكوفة والبصرة زمن الحجاج، ومنهم من كان يجافي السلاطين مع شدته على دعاة الخروج وأمره بلزوم الجماعة والطاعة بالمعروف كأكثر علماء العصر العباسي الأول.

لكن التوجه الأول هو الذي ظل مُنَظِّرُو الحركات الإسلامية المعاصرة يرسمون من خلاله صورة العالم المثالي القائم بحق علمه ودينه، وكانت مسرحية عالم وطاغية التي ألفها الدكتور يوسف القرضاوي عام 1949، ثم أعاد تأليفها بعد ذلك بعقدين من الزمان، تُرَوِّج لهذه الصورة عبر عرضها لمشهد قتل سعيد بن جبير رحمه الله بين يدي الحجاج بن يوسف، وهو مشهد لا يعطي الصورة كاملة لما حدث ويَغْفَل عن كون بطل المسرحية قد جعله الحجاج ابن يوسف خازناً لبيت مال المسلمين مع الجيش الذي أرسله بقيادة عبدالرحمن بن الأشعث لاستكمال فتح بلاد الترك، ذلك المشروع الذي لو تم -والله وحده أعلم- لوصل الإسلام إلى القوقاز وموسكو وأوروبا الشرقية في القرن الأول الهجري ولم ينتظر قروناً ليدخلها على أيدي فاتحين آخرين، لكن سعيد بن جبير وعبدالرحمن بن الأشعث وجميعَ من معهم من العلماء غفر الله لهم أخطأوا الجادة وسالموا ملك الترك الوثني، ليعودوا لمقاتلة الحجاج بالأموال التي جعلها أمانة بين أيديهم لنشر الإسلام وقِتَال أعدائه.

هذه المسرحية كانت نموذجاً لبعض المؤلفات التي رُسمت من خلالها صورة العالم الذي يُعَدُ غيره عالم سلطان خائن، أو على أضعف تقدير مقصر في حق دينه وأمته.

ومما أسهم في الترويج لهذه الصورة مطلع القرن الماضي: أنها جاءت بعد حالة معاكسة غلبت على أحوال العلماء في عصور انتشار التصوف في العهد المملوكي والعثماني ودُول المشرق الإسلامي والمغرب الإسلامي، وهي حالة العلماء السلبيين الذين لا يعنيهم أمر الخاصة أو العامة، وأَمْثَالُهُم من جعل تركيزه منصرفاً إلى تصنيف الموسوعات الكبيرة في الفقه وشروح الحديث وتراجم الرجال، أما الأكثرون فلا يعتنون من الدنيا بأوسع من زواياهم وخلاويهم التي ينقطعون فيها إلى أذكارهم وأورادهم، وقليل منهم باعوا حقاً دينهم بعرض من الدنيا قليل؛ ولا يعني ذلك خلوَ تلك العصور من نماذج قليلة ممن قام بحق الدين والعلم كما ينبغي، من أمثال العز بن عبدالسلام وابن تيمية، ممن جمع بين واجبه تجاه أمته ودينه وحفظه لحق الحاكم من الطاعة بالمعروف ولزوم الجماعة.

فكانت ردة الفعل للطابع السائد في عصور سيادة التصوف التي حدثت في العصر الحديث تتمثل في اتخاذ سعيد بن جبير في موقفه من الحجاج الأنموذج الذي لا ينبغي أن يكون العالِم إلا عليه، وذلك إضافة إلى عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية وعلمية أُخرى.

وشيوع هذا الأنموذج كان له آثاره السلبية على عصرنا الحاضر ومنها: الزهد الكلي أو الجزئي في العلماء المتصالحين مع السُّلطات أو العاملين في سِلكها لدى الشباب المتأثرين بالطرح الإسلامي الحركي، بل إن تقييمهم للشخصيات العلمية التاريخية كان أيضاً يخضع لهذا الزهد الجُزْئي، إذ لا تجدهم يبرزون من شخصية الإمام أحمد بن حنبل إلا موقفه القوي في مواجهة محنة المعتزلة، ولا يبرزون من شخصية العز بن عبدالسلام إلا موقفه في مواجهة أمراء المماليك، وحتى ابن تيمية يبرزون قُوَّته في مواجهة أهل البدع وإحياء السنة، أما موقف هؤلاء من الأمر بلزوم الجماعة والطاعة بالمعروف والبدء بالإصلاح العقدي والإيماني والأخلاقي فيُمِررونها كما جاءت وربما وقفوا منها موقفاً نقديا.

لكن المؤسف اليوم أننا نشعر أيضاً أن ثمة توجه لرسم صورة يُدَّعى أنها مثالية لعالم الدين، وإنما هي ردة فعل معاكسة في الاتجاه ومساوية في القوة للصورة التي رسمها الإسلاميون الحركيون سابقاً؛ وهي صورة العالم الذي ينسب كل ما يشاهده من الأخطاء والمخالفات الشرعية إلى الإسلام تبعاً لنظام الحكم الذي يعيش فيه، ابتداء من التوسع الشنيع في قاعدة «قول الحاكم يرفع الخلاف»، حيث يُنزِلُونها على مخالفات بعض الحكام للدليل الشرعي، أو التي فيها خلاف ضعيف غير سائغ، مع أن الحاكِم المخالف لم يطلب لفعله تسويغاً شرعياً ولم يقصد أن يُكَوِّن قولاً فقهياً، وإنما بناه على نظرة اقتصادية أو سياسية بحتة، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى القول بعلمانية الإسلام وتقديم الحرية على تطبيق الشريعة كما فعل القرضاوي نفسه صاحب مسرحية عالم وطاغية، والتي قال في مقدمتها عن أسباب سجنه في الأربعينات الميلادية: «وما نقموا منا إلا أننا ندعو إلى الإسلام الصحيح: دينا ودولة، عبادة وقيادة، صلاة وجهاداً، مصحفاً وسيفا»، ثم آل الأمر به إلى القول بعلمانية الدولة وتقديم الحرية على الشريعة؛ وبذلك تتغير الصورة المثالية لديه لعالم الدين من العالم المناوئ للسلطان من أجل تطبيق الشريعة إلى العالم المناوئ للسلطان من أجل فرض الحرية قبل فرض الشريعة.

فخضوع الأحكام والتصورات العلمية لردات الأفعال أمر يُلحق الضرر البالغ ليس بالعالِم وحده بل بالأمة التي تفقد ثقتها بالعلماء بسبب خضوع اهتزاز ثوابت الدين لدى بعضهم لاهتزاز الظروف الاجتماعية والسياسية.

والحق الذي يتجلى للمتأمل أن الصورة المثالية للعلاقة بين الحكام وعلماء الدين لا ينبغي أن تُوضع في قالبٍ واحد لا يجوز الخروج عنه، فالعلماء يختلفون في قُدرَاتِهم ومواهبهم وقُوَّتهم وضعفهم، فمنهم الحكيم الحليم البليغ الذي يستطيع إيصال رسائله إلى الحكام بطريقة تؤهلها للتأثير في القرارات، ويملك صلابة في دينه وقوة في رأيه تحجزانه عن ابتغاء رضا الناس بسخط الله ؛فالوضع المثالي لهؤلاء هو الاقتراب من الحكام وشد أزرهم والعمل على الإصلاح من خلالهم.

ومنهم من تغلِب غيرتُه صبرَه ولا يملك تقدير الأمور بقدرها وليس له من حسن المدخل وبلاغة الخطاب ما يستطيع به إيصال رؤيته للحكام والتأثير عليهم، فهؤلاء لا يُحمد قُربهم من الحكام ؛ بل يبقون ذخيرة للأمة يبثون فيها العلم وينشرون الصلاح ويُعينون على تربية النشء مع لزوم ما أمر الله به من لزوم الجماعة وتجنيب الأمة الفتن؛ وكلا الصنفين فيه خير للأمة كبير؛ بل لو تخلى الأول عن مكانه أو أُقصي عنه لحصل الفساد، كما يحصل الفساد أيضا لو أخذ الصنف الآخر مكان الأول.

ولنا أن نقول: إن جِمَاع الأمر ومِلاكَه عائد إلى تعريف السياسة الشرعية الذي تواطأ أهل العلم عليه منذ القِدَم وهو أنها:«سياسة الدنيا بالدين».

فالعلم بالدنيا من إدارة مصالح الناس وتوفير ضروراتهم وحاجاتهم وتحسيناتهم، وأمنهم واتقاء عدوهم وعمارة أرضهم وحجز بعضهم عن ظلم بعض هو دور الحاكم الذي يُعَد العلماء بعض أعوانه عليه، وحينما يُريد عالم أن يصرف ذلك إلى نفسه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فإن ذلك من عظيم الإفساد والتقصير.

والعلم بالدين حلالِه وحرامِه واستنباط الأحكام من الأدلة وتصحيح الأدلة وتضعيفها وتقديم بعضها على بعض وتنزيل الأحكام على الأفعال هي مهمة العلماء؛ ومزاحمتهم على هذه المهمة ممن لا يملكون أدواتها من أهل الإعلام وأضرابهم، أو احتجانها دونهم، أيضا هو مدخل من مداخل الفساد العظيم.

وحفظ الدين والأمة مرتهن بحفظ المنهج الوسط الحكيم في علاقة كل منهما بالآخر، وهو المنهج الذي سلكه علماء بلادنا وحكامها منذ نشأة هذه الدولة حتى يومنا هذا، حيث تجاوزوا به كل ما يذكره التاريخ من مضايق وعثرات.