صادفت يوما ما عندما مررت بأحد المقاهي في رحاب إحدى الجامعات العريقة، أحد الأساتذة الكرام بقسم اللغة العربية، وقلت له مازحا بعد تبادل عبارات الترحيب: «يجب تغيير مسمى قسمكم (قسم اللغة العربية وآدابها) إلى قسم (الدراسات الغربية)، نظرا لأن النظريات والمفاهيم الغربية بدأت تأخذ حيزا أكبر في الدراسات والبحوث والأوراق العلمية التي يقدمها القسم. كان رده عليّ منطقيا إلى حد كبير، ويفسر كثيرا انتشار هذه النظريات الغربية في حقل العلوم الإنسانية بالجامعات العربية، وهو عدم وجود نظرية لغوية عربية معاصرة، وفي سبيل تعويض هذا النقص ومواكبة التحديث، فإن القسم يضطر أحيانا أو غالبا للانفتاح على المناهج والنظريات الغربية.

عدم وجود نظرية لغوية أو نقدية بطبيعة الحال سيقفز بنا إلى ظاهرة مهمة جدا، وهي التبعية الأكاديمية، فالعجز عن صناعة نظرية لغوية يعد مؤشرا طبيعيا على وجود اعتماد معرفي على الآخر، وهذا الاعتماد سيخلق مجالا معرفيا غير متكافئ في التبادل الثقافي والعلمي.

طرحنا في عنوان المقال النظريتين، التوليدية والتداولية، كنموذجين للنظريات الغربية التي أصبحت تغزو أقسام العلوم الإنسانية في الجامعات العربية، وتطرح بصفتها نظريات كونية أو عالمية (universal) لا تحدها الجغرافيا، ولا تقيدها الثقافات المتنوعة والقوميات المختلفة، ووجودها الطاغي في قسم اللغة العربية لا يعني وجود طرفين متناقضين، أحدهما منتج للمعرفة والآخر مستهلك لها، ولا يؤدي إلى خلق حالة من التبعية الأكاديمية المقيدة للإبداع، ولن يؤدي إلى وجود عملية استيعاب (assimilation) غير نقدي للنظريات والمناهج الأوروبية والأمريكية، وهذا الكلام المتفائل والمتسامح لدرجة السذاجة لا يمكن أن يكون منطقيا. بدليل نشوء تيار جديد من داخل أقسام العلوم الإنسانية يحمل أيديولوجية معادية لتراث اللغة العربية وآدابها، وليس بخاف عنا تلك الحملة الجديدة ضد الأدب العربي التي تحاول شيطنته، بل دعشنته بحجة النقد الهادف والبناء.

هذا التوسع في توظيف النظريات الغربية والتبادل المعرفي غير المتكافئ، قاد حركة ترجمة غير متكافئة تسير في اتجاه واحد مع تهميش للعلوم العربية القديمة، وعدم تحديثها وإعادة إنتاجها وتطويرها، للوصول إلى نظريات لغوية أصيلة تعبر عن روح المجتمع.

إن إعطاء الأفضلية للطرق التفسيرية ومصادر البحث الأصيلة، مع الاعتراف بأننا نحتاج إلى إعادة قراءة وإنتاج تراثنا المعرفي في سبيل الوصول لطرق دراسة مبتكرة وإبداعية، سيعطينا الثقة في التحرر من تقييد العقول وتعطيلها كنتيجة طبيعية للتبعية الأكاديمية، وتحررنا من الحاجة الماسة والملحة إلى البعثات الدراسية والندوات والبحوث والمصادر الأجنبية، للتعرف على ما توصل له الآخر من معارف في سبيل مسايرة الركب، ولن ينتج عن ذلك إلا مزيد من التبعية الأكاديمية والحاجة المتزايدة إلى الاستهلاك.

وفي مجال علوم الإنسان تنامت هذه التبعية الأكاديمية في الجامعات العربية في حقبة ما بعد الاستعمار، وليست النظرية التداولية إلا آخر نموذج لهذه التبعية الأكاديمية، وخير شاهد على البنية غير المتكافئة لإنتاج وتداول المعرفة التي خلقت كثيرا من التشوهات، وقيدت العقل العربي وجعلت مساهمته هامشية في مصادر المعرفة والبحث، مع أنه يملك إرثا إنسانيا كبيرا لم يحسن توظيفه وإعادة إنتاجه، مما جعل الآخر «المنتج للمعرفة» أو «المهيمن على المعرفة» يفرض شروطه ومعاييره، ويشكل المجال المعرفي كما يشاء من خلال تحكمه بنظام النشر الدولي، ويشهد على ذلك سيطرة المجلات الأمريكية والأوروبية -فرنسا وبريطانيا وألمانيا تحديدا- لعقود عديدة، على نسبة تداول أوسع مقارنةً ببقية البلدان الأخرى.

التوسع في توظيف النظريات الغربية في مجال العلوم الإنسانية لن يؤدي بالضرورة إلى تطوير علمي أو مواكبة للعصر بقدر ما يرسخ التبعية الأكاديمية، ويجعل التخلص منها من المشاكل المستدامة داخل المؤسسات التعليمية.