تجاوُبٌ غير مستغرب قابل به غالبية المجتمع السعودي الإجراءات التي اتخذتها القيادة لمواجهة خطر انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19»، وتدافُع كبير لتنفيذ التوجيهات التي أقرتها الجهات المختصة للسيطرة على المرض وتطويق آثاره وتقليل خسائره.

هذا التجاوب الذي أثار الإعجاب لم ينبع من فراغ ولم يأت اعتباطا، بل يعكس إيمان الشعب بحكمة قيادته، وتقدير المساعي التي تبذلها لما فيه مصلحته وعرفانا بجميل صنعها، ورغبة في تعزيز جهودها لهزيمة الوباء وإبقاء أثره في أضيق نطاق، وهو ما كان له أكبر الأثر في النجاحات التي تحققت حتى الآن في السيطرة على المرض، والخطوات الكبيرة التي قطعت لاستئصاله والقضاء المبرم عليه.

منذ بدايات ظهور المرض، تفاعلت الغالبية العظمى من السعوديين مع توجيهات القيادة بالابتعاد عن أماكن التجمعات والزحام، والبقاء في المنازل لأطول فترة ممكنة، حيث خلت الشوارع في معظم المدن من السيارات والمارة، واختفت مشاهد الزحام المروري، كما تزايدت المبادرات الشعبية في وسائل التواصل الاجتماعي بالتواصي والتشديد على أخذ الحيطة والحذر، وأعاد كثير من المشاركين والمتفاعلين بثّ ما تنشره الأجهزة المختصة من تعليمات التعامل مع الأوضاع الراهنة، أما الذين اختاروا التغريد خارج السرب، والتباهي بكسر الحظر ومخالفة التعليمات -وهم أقلية لا تكاد تُذكر- فقد تعرّضوا لهجوم واسع ودعوات متزايدة لمقاطعة صفحاتهم وحساباتهم، مما جعلهم يعيشون في عزلة حقيقية.

لم يقتصر تجاوب السعوديين مع توجيهات قيادتهم عند ذلك الحد، بل اتخذ طابعا عمليا، فقد شاع ارتداء الكمامات والقفازات بين المواطنين، وانتشرت قوارير المعقمات في معظم المناطق العامة، مثل أجهزة الصراف الآلي، حتى إن كثيرا من المواطنين تبرّعوا بشرائها من أموالهم الخاصة، ووزعوها مجانا على المحتاجين.

كما استجاب غالبية ذوي المرضى المنومين في المستشفيات إلى توجيهات المؤسسات الطبية بوقف زيارتهم، والاستعاضة عنها بوسائل الاتصال المرئية والهاتفية التي وفرتها تلك المستشفيات، حفاظا على صحتهم وصحة أقاربهم المرضى.

ودعما لجهود الدولة الرامية إلى دعم مؤسسات القطاع الخاص، وتقديرا لظروف المؤسسات الصغيرة في ظل إغلاق المحلات التجارية، فقد بادر كثير من أصحاب العقارات إلى إعفاء المستأجرين، سواء للشقق السكنية أو المحلات التجارية من قيمة الإيجارات المترتبة عليهم، بل إن بعضهم ممن يملك عقارات كبيرة المساحة، وافق على تقديمها للسلطات المختصة لاستغلالها في إيواء العمال الذين يتكدسون في مساحات ضيقة.

كذلك كان لافتا بشدة تدافُع آلاف الشباب السعوديين إلى تسجيل أسمائهم في منصة التطوع الصحي التي أعلنت وزارة الصحة فتحَها، ففي ساعات قلائل بلغ عدد المتطوعين مئة ألف من المتطوعين الذين أبدوا موافقتهم على بدء العمل فورا، سواء من الممارسين الصحيين أو المتقاعدين أو الشباب الذين يمكن الاستفادة منهم في الخدمات المساندة، وهذا التجاوب الشبابي الكبير يؤكد ما ظللنا ندعو إليه كثيرا من إمكان الاستفادة من الكنز الهائل الذي تتمتع به بلادنا، والمتمثل في القدرات الشبابية الضخمة، إذ تؤكد الإحصاءات الرسمية أن غالبية الشعب السعودي من فئة الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 إلى 35 عاما.

هذا التجاوب الشعبي الكبير فطنت إليه الجهات الرسمية في مختلف مناطق المملكة، وسعت إلى تعزيزه وتوجيهه والاستفادة منه، إذ شهدنا كثيرا من المبادرات المجتمعية التي قامت بها إمارات المناطق، مثل مبادرة «برا بمكة» التي يقف وراءها الأمير خالد الفيصل، ومبادرة «فطورك علينا» التي دشنها أمير المدينة فيصل بن سلمان.

وقد وقفت بنفسي شاهدا على مبادرة «نجران مجتمع واعي» التي أعلنها الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد، والتي حققت نجاحا هائلا، وأثارت ردودا محلية واسعة النطاق، فقد تسابق شيوخ قبائل المنطقة ووجهاؤها والشخصيات الفاعلة للمشاركة فيها، وحث المواطنين على الاستجابة لمتطلباتها.

ويعود سبب التجاوب الشعبي الواسع مع المبادرة -من وجهة نظري- إلى التقدير الكبير الذي يحمله إنسان المنطقة للأمير جلوي، ونائبه صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن هذلول، بسبب حرصهما الكبير على مصالح المواطنين، وسعيهما الدؤوب إلى الاطمئنان على صحتهم، وتجلى ذلك الاهتمام بوضوح في الاطمئنان هاتفيا على الذين أصيبوا بالمرض، وإرسال برقيات التهنئة لهم عقب أن مَنّ الله عليهم بالشفاء وخرجوا إلى بيوتهم.

وقد مثّل التلاحم والتقارب الكبير بين المواطن والمسؤول الذي يجسده أمير نجران ونائبه، أبرز معالم مدرسة الإدارة الفريدة التي أرسى مبادئها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وشدد عليها ولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- إذ يحرصان على توجيه المسؤولين بالقرب من المواطنين، وتسخير كل الإمكانات لخدمتهم والسهر على راحتهم وضمان مصالحهم.

ختاما، فإن هذا التجاوب الشعبي الكبير مع توجيهات القيادة الحكيمة، رغم أنه كان عفويا، إلا أنه كان أقرب إلى المهنية والاحتراف، إذ لم نشهد في المملكة منذ بوادر ظهور المرض ما ظللنا نشاهده على شاشات الفضائيات، من تجاوزات في كثير من الدول التي تصنّف ضمن دول العالم الثالث، مثل التهافت الكبير على شراء السلع الغذائية وتخزينها، وكسر قواعد حظر التجوال، ووقوع كثير من المشاحنات مع السلطات الأمنية المعنية بمراقبة التقيد بالحظر، بل شاهدنا المواطنين وهم يقدمون المياه وعبوات العصائر لرجال الأمن قبل بدء ساعات الحظر، وهو ما يؤكد حقيقة أن الحضارة هي قواعد سلوكية وتعاملات راقية، يكتسبها الإنسان بفعل قيمه الراسخة المنبثقة من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وهو ما يملكه مجتمعنا بحمد الله.