تراءت أمام عيني صور، ومرّت بخاطري أحداث لا تبارح مشاعري، ونحن أسرى فيروس صغير لا يرحم، وقد سبقته فيروسات لا تعد ولا تحصى.

ففيروس الحصبة الإسباني قبل 100 عام حصد أرواح حوالي 50 مليون نسمة، وكان عدد البشر في العالم ذلك الحين بين 300 - 400 مليون نسمة.

أرقام مروعة، وتتالت الفيروسات وسلبياتها، وظلت في حرب مع العلم والعلماء. أما كورونا، فإنه -عدا المرض- له سلبيات أخرى، فالإحصاءات تقول إن العراك العائلي تزايد، ومن ذلك في فرنسا بـ37%، وفي بريطانيا 700%، كما أن هناك حالات تسمم كثيرة نتيجة الإفراط في استعمال مواد التعقيم، وما يحكى عن تأثيره على نفسيات هذا الجيل.

في الوقت نفسه، هناك إيجابيات على طريقة «مكره أخاك لا بطل»، منها قلة تلوث الهواء، وشق الأوزون التأم في القطب الشمالي، كما أن الحيوانات «لقت لها يوم»، فهي تسرح وتمرح على حل شعرها.

وهناك مفارقات لا تخلو من عبرة، مثلا الدكتورة الدوسري التي أصيبت بفيروس كورونا وشفيت منه تقول «لبست كمامة ولكن تساقطت حولي كثير من الأقنعة، كورونا مضرّ، ولكن بعض الأشخاص أكثر ضررا».

محافظ أسوان يعتذر لأسرة العقاد، لأنه وُضع كمامة على تمثاله. منظمة الصحة العالمية ورئيسها «تضرس» ما تسمع منها خبر يسر الخاطر. نتوقع استمرار الجائحة. وسيستهدف كل البشر، طيب عارفين أنه ما يفرق بين إنسان وآخر، فهل كورونا اتصل شخصيا، وبلغ أن الناس عنده سواسية وأنه فيروس محترم، والعدالة عنده في المقام الأول. أخبار الدواء واللقاحات لا جديد مفيد.

المملكة -كالعادة- تغرد خارج سرب المتقاعسين، والذين في الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال، فقد طلبت المملكة توفير 8 مليارات من العالم أجمع، لإيجاد علاج ولقاح، ودفعت 500 مليون دولار لهذا الغرض، ومثلها لليمن، أما الذي مش مرتاح له هو عدم التركيز على العلاج بما لا يخل بالبحث عن اللقاح، فالمصابون بمئات الآلاف وبعضهم يمكث أكثر من 30 يوما حتى يتعافى. هذا إذا أصلا شُفي من ذلك المرض، ولم يتم دفنه مع جملة الذين خرج ولم يعد، أو ذهب مع الريح.

ويظل سيد الموقف فيروس كورونا حتى يغلق هذا الملف بكل حيثياته، ومنها التشابك العالمي بين أمريكا وبقية العالم من جهة والصين من جهة أخرى.

لقد ذكرني عنوان المقال «فيروس رايح وفيروس جاي»، بأغنية البابور، فهذه الأغنية ألّفها عبدالجليل وهبي، ويذكر ملحن البابور عبدالفتاح سكر أنه في عام 1968، كان وعبدالجليل وفهد بلان يعيشون في شقة على قد الحال، واشتاق فهد بلان إلى كاسة شاي، فشغّل البابور «والذي نسميه نحن الدافور»، وفي هذه الأثناء مر القطار «ويسمونه البابور» من جنبهم، وأحدث صوتا واختلط صوته مع صوت بابور القاز، ووقف فهدٌ على الشرفة وفي يده كاسة الشاي بعد أن وضع فيها سكر، فكتب وهبي «بابور رايح وبابور جاي، وبابور محمل سكر وشاي، بابوري رايح على بيروت. رائح يجيب.. مرجان وياقوت، على البعد ياحبيبي.. راح أموت. بالله الحقوني بشربة ماي»، لحّن الأغنية عبدالفتاح وكانت من نصيب موفق بهجت، الذي كان حاضرا معهم.

خطرت على بالي هذه الأغنية وأنا أنبش من حيث لا أدري عن إرث مضى، فكلنا نُحِنّ للماضي، نتخيّله كوردة حمراء لا تزال على فرعها كهيفاء تختال في ثياب عرسها، تطيبت بأفخر أنواع الطيب، فلاحَ نسيمٌ وديع فحمل ذلك العبق إلى حيث تشتاق له كل جوارحنا ومشاعرنا، فتثير الذكريات وتنداح الحكايات، فتمر أمام خيالنا فنعاشرها كأيقونة عمر، وتفاصيل حياة مضت كامنة لكنها لا تغفو أبدا.