يستحق المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون أن يوصف بأنه مستشرق غير عادي، ونموذج فريد في تأكيد الصلات الثقافية بين الشرق والغرب، وهذا ما نلمسه في كتاب «لويس ماسينيون» الذي كتبه الدكتور إيلي الربضي.

وجاءت فرادة ماسينيون من إسهاماته القيمة في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات الصوفية منها بوجه خاص، ويرجع ذلك إلى سعة اطلاعه وعمق نظرته وغزارة علمه، إضافة إلى رحلاته المتعددة إلى بلاد الشرق الإسلامي، وصلاته الوثيقة بالمؤسسات العلمية الإسلامية، وقيامه بالتدريس فيها.

وامتلك ماسينيون رؤية مختلفة للواقع العربي في بدايات القرن الماضي، وحاول أن يجد صلات وصل قوية بين عالمه المسيحي والعالم الإسلامي من خلال شخصية الحلاج، ولَعلَّ استغراق ماسينيون في دراسة التصوف الإسلامي جعل منه في النهاية متصوفاً يتمتع بنظرة تسامحية فريدة تدعو إلى الوئام بين أبناء جميع الديانات.

وتتحلى مؤلفات ماسينيون بنوع من السحر، لأنها تنبع من أساس تجربته الشخصية ومن إعادة عيش التجربة من خلال كتاباته ومساهماته العلمية، وقد بلغت أكثر من 200 كتاب ومقالة.

آلام الحلاج

صدر كتاب (آلام الحلاج) عام 1922، وبعد نفاد طبعته الأولى 1935 كان ماسينيون قد اتخذ قراره بإعادة صياغة القسم الأول الذي تتبع فيه المراحل الأساسية لحياة الحلاج، وأبقى القسم الثاني المتضمن عرض مذهبه على حالته الأصلية، وقد تقرَّر مخطط هذه الطبعة الجديدة في 1937.

ومنذ 1958 وحتى موته المفاجئ انكب ماسينيون على التدقيق في مراجعه، وإضافة ملحقات هامشية عدة إلى النص الأصلي.

4 أجزاء

تظهر الطبعة الجديدة بثمرة 40 عاما من البحث في 4 أجزاء، وهي:

1 - حياة الحلاج وانعكاساتها الاجتماعية على شكل سلسلة لوحات، بدءًا من تربيته العائلية وتعليمه المدرسي في البيضاء حتى واسط والبصرة (مدرسة الحسن للزهاد)، ثم رحيله إلى أبناء الدنيا، وتلقيه نهج العلماء السلفي، ومحاولاته الأولى في الزهد الفردي، ثم الروايات الرسمية لمحاكمته، ثم تعذيبه على مسرح بغداد وصولاً إلى «المشهد الجليّ» لاستشهاده.

2 - خلود الحلاج، ويستطرد الكاتب فيه باستمرار باحثاً في أعماق الفكر الاجتماعي الديني لتلك المرحلة، فيحيط بدقائق الحياة الإسلامية في ذلك الزمان حتى أدق التفاصيل، ويجلي معنى مغامرة الحلاج الروحية بوضوح شديد.

3 - مذهب الحلاج وهو عرض منهجيُّ لمذهبه، حتى في ممارسته للصلاة والتأمل والتبشير، ومعالِم «أزمة الذات» الهائلة التي أوصلتْه إلى محاكمته ومقتله.

4 - جامع لفهرس المصادر الحلاجية.

وبحسب د. محمود قاسم، تُعدُّ كتابات ماسينيون عن الحلاج المرجع المعاصر الأول الذي يجب الرجوع إليه للكشف عن ملامح تلك الشخصية العجيبة.

كتاب التصوف

من أبرز الكتب التي ألفها ماسينيون، ويتكون من 5 أجزاء:

أولاً: أصل الكلمة

تطرق إلى أصل كلمة التصوف، ويقول: هي المصدر الخماسي المصوغ من «صوف» للدلالة على لبس الصوف، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية في الإسلام صوفياً.

«الصوفية» التي ظهرت عام 199 للهجرة في خبر فتنة قامت بالإسكندرية، كانت تدل على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكاد يكون شيعياً نشأ في الكوفة، وكان عبدك الصوفي آخر أئمته، وهو من القائلين إن الإمامة بالتعيين.

ثانياً: أصول التصوف

أكد أن أصول التصوف والتفاسير الصوفية للقرآن والأحاديث الصوفية عن حياة النبي محمد، الباطنة، التي لا نعلم عنها إلا القليل، متأخرة في الزمن بعض الشيء حتى ليشك فيها، على أن النزوع إلى التصوف، لم يكن يعوز البلاد العربية الإسلامية في القرنين الأولين للهجرة، فإذا استعدنا الأساطير المتأخرة، فإننا نجد الجاحظ وابن الجوزي قد حفظا لنا أسماء أكثر من 40 زاهداً عاشوا في ذلك العهد.

ثالثاً: شأن الصوفية في المجتمع الإسلامي

بين ماسينيون العلاقة بين الصوفية والمجتمع الإسلامي، حيث أكد أن المتصوفة الأوائل لم يتوقعوا أن يصطدموا بأول الأمر بالمجتمع الإسلامي، إذ كانوا قد جنحوا إلى العزلة وآثروا الفقر ليتقرأوا القرآن. والواقع أن منشأ النزوع إلى التصوف هو ثورة الضمير على ما يصيب الناس من مظالم لا تقتصر على ما يصدر عن الآخرين، وإنما تنصب أولاً - ومثل كل شيء - على ظلم الإنسان نفسه.

على أن ذلك لم يكن من هدد بعد النظام القائم بالغاً ما بلغ جور الحاكم، ولكن الفقهاء والمتكلمين أسخطهم أن يروا أناساً يتحدثون عن نشدان الضمير ويحتكمون إلى قضائه الباطن، في حين أن شريعة القرآن تحاسب على الإهمال الظاهر، وتعاقب الناس على آثامهم، ولا حيلة لها مع النفاق في الدين، ولذلك حاولوا أن يبينوا أن حياة الصوفية لا محالة مفضية بهم إلى الزيغ؛ لأنهم يقولون إن النية مقدمة على العمل، وإن السنة خير من الفرض، وإن الطاعة خير من العبادة.

رابعاً: معنى الاتحاد وتصوره في تاريخ التصوف

كان التصوف في أول عهده يدور حول نقطتين، أولهما: العكوف على العبادة يولد في النفس «فوائد» هي الحقائق الروحية. وثانيهما: أن علم القلوب يفيض على النفس «معرفة» تنطوي على استعداد الإرادة لتلقي هذه الفوائد، وقد أنكر المعتزلة ذلك وقنعوا بمعرفة النفس معرفة نظرية.

خامسا: أساس التصوف وما مر به من أدوار

أطلق لفظ الصوفي والمتصوف بادئ الأمر مرادفاً للزاهد والعابد والفقير، ولم يكن لها معنى يزيد على شدة العناية بأمر الدين ومراعاة أحكام الشريعة، والفقر والزهد ولبس الصوف مظهر ذلك، وكانت أحكام الشريعة تُتلقى من صدور الرجال، ثم تحدث الناس في الأمور الدينية على نظام علمي، ونشأ التدوين، فكان أول ما توجهت إليه الهمم وانصرفت إليه الأفكار علم الشريعة بمعنى الأحكام العملية، حتى حسب الناس أن الاشتغال بهذا العلم والعمل به هو غاية الدين.

ماسينيون واللغة العربية

كان ماسينيون يحب العربية حباً عظيماً، يؤمن بأنها لغة الوحي، كما يؤمن كل مسلم، ويعتقد أن مجد العربية إنما يقوم على هذه القداسة التي تربطها بالنص الكريم، العربية عنده وظيفة دينية، لأنها تعبر عن أوامر الله تعالى، ووسيلة التأمل والمناجاة.

وكما عشق العربية عاش محباً لأهلها الماضين والمعاصرين، فالتحق بالأزهر، وألقى بحوثاً عدة دعا فيها إلى جمع المصطلحات العلمية والفنية في التراث العربي والإسلامي، وفي محاضرة عقد موازنة طريفة بين اللغات العالمية، وقسمها إلى ثلاث أسر: سامية، وهندو أوروبية، وطورانية، ولاحظ أن العربية في أغلبها ثلاثية الأصول، وأنها لغة سواكن، وهي أكثر الساميات احتفاظاً بسواكنها، ولنبرات الصوت شأنها في توضيح المعنى.

ماسينيون والإسلام

عُرف ماسينيون باحترامه وتقديره لجميع الأديان، ومنها الإسلام، وكان من المهتمين بالإسلام والقرآن الكريم، وبسيرة الرسول. أما بالنسبة للإسلام، فكان ماسينيون يعتقد أنه تعبير حقيقي عن الإيمان التوحيدي، وأن له رسالة روحية إيجابية تنبذ عبادة الأوثان، وبعبارة أخرى فإن الإسلام هو الطاعة والاستسلام الحقيقي لله.

لقد درس ماسينيون الإسلام في ضوء مبدأ (النبوة)، ووصل إلى قناعة تامة بأن الرسول سمع ورأى الملاك (جبريل)، وكان يعي جيداً ما كان يلقى إليه من القرآن الكريم.

لويس ماسينيون

- ولد في نورجان سور مارن في 25 تموز 1883

- درس الدين الإسلامي وتعمق في أصوله وفي أصول اللغة العربية

- اتجه نحو التصوف والمتصوفين في دراساته العلمية والإسلامية

- درس تاريخ الفن اليوناني والروماني وعهد الانبعاث والنهضة

- 1901 زار الجزائر لأول مرة حيث اكتشف الإسلام

- 1902 حصل على إجازة في الآداب

- 1904 تعرضت قافلته في المغرب لهجوم كاد يفقده حياته لجهله بالعربية فقرر تعلمها

- 1905 شارك بمؤتمر المستشرقين الدولي الرابع عشر.

- 1906 حصل على دبلوم في اللغة العربية الأدبية وآخر في اللغة المحكية

- تابع دروسه في جامع الأزهر في القاهرة

- 1906 انتخب عضواً في المعهد الفرنسي لعلم الآثار الشرقية

- 1908 كلف ببعثة تنقيب عن الآثار في بغداد

- 1909 درس في الأزهر كتلميذ في الفلسفة

- أصبح مدرساً في الأزهر لمادة تاريخ الفلسفة الإسلامية، وقد ألقى فيها 40 درساً بالعربية

- 1922 ناقش رسالة الدكتوراه عن حياة الحلاج شهيد الإسلام الصوفي

- 1954 عين أستاذاً لعلم الاجتماع وعلم الاجتماع الجغرافي الإسلامي في كوليدج فرنسا

- 1933 عين مديرا للدراسات في مدرسة الدراسات العليا العملية (العلوم الدينية)

- 1947 انتخب رئيسا لمعهد الدراسات الإيرانية

- 1947 أسس الجمعية الفرنسية الإسلامية

- 1962 توفى إثر نوبة قلبية حادة