حراك كبير شهدته الساحة المحلية خلال الأيام الماضية، بدأ بدعوة وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الدكتور عبداللطيف آل الشيخ لضبط أداء بعض الجمعيات، لافتا إلى وجود بعض الجمعيات الخيرية غير المصرح لها بالعمل، ونبه إلى إمكانية استغلال الأموال التي قد تجمعها في أنشطة غير قانونية. بعد ذلك طالعنا البيان الرسمي الذي أصدرته وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وأكدت فيه أن الجمعيات العاملة في المملكة تخضع لمعايير حوكمة عالية الكفاءة، وتلتزم بأنظمة وإجراءات الدولة المعمول بها، مؤكدة أن الوزارة تشرف على سير أعمالها ومنحها التراخيص اللازمة وفق سلسلة من الإجراءات المتبعة، ولا ينتهي الأمر عند حدود منح التراخيص، بل تتم متابعتها وفق إطار محدد ينظم أعمالها ويهدف إلى تقويمها، من خلال زيارات ميدانية وتقارير دورية للتحقق من مدى التزامها بالأنظمة والمعايير ذات العلاقة، إضافة إلى التدقيق المحاسبي على الأنظمة والقوائم المالية للجمعيات بشكل دوري، إلى غير ذلك من الإجراءات التي من شأنها تحقيق الإفصاح والشفافية المطلوبة.

وكما يتضح لي فإن هذا الحراك يثبت الرغبة في الإصلاح، والحرص على الصالح العام، وتكامل الأدوار بين المؤسسات الحكومية كافة، فلا يستقيم أن يسكت أي منا عن الخطأ -إن وجد- بذريعة أن ذلك خارج حدود اختصاصاته، فحماية هذا الوطن العظيم وصيانة حقوقه والحرص على مكتسبات المواطن هي مسؤولية الجميع.

وقد بادرت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية -مشكورة- بتشكيل مجلس الجمعيات باختيار عدد من النماذج الوطنية المشهود لهم في العمل التطوعي، وجاءت انطلاقة هذا المجلس ليعكس أهمية وجود مظلة تدعم الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وحمايتها من أي معوقات قد تواجهها، ويؤكد اهتمام الوزارة بتنمية القطاع غير الربحي. ولعل أكبر دعم رسمي حصل عليه القطاع غير الربحي، حتى الآن، هو موافقة مجلس الوزراء في أغسطس من العام الماضي على إنشاء «المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي»، الذي يتمتع بشخصية اعتبارية، واستقلال مالي وإداري، ويرتبط برئيس مجلس الوزراء مباشرة، ويهدف إلى تفعيل دور منظمات القطاع غير الربحي، وتوسيعه في المجالات التنموية، والعمل على تكامل الجهود الحكومية، في تقديم خدمات الترخيص لتلك المنظمات، فالحكومة حريصة اليوم أكثر من أي وقت مضى، على دعم كل من لديه رغبة، وتوجه في مجال العمل التنموي والجمعيات، التي هي جزء من القطاع غير الربحي، كما تسعى إلى مضاعفة أعداد الجمعيات التخصصية، خلال الأعوام المقبلة، وهذا يتماشى مع تطلعات رؤية 2030. وأرى أن الحل النموذجي والجذري يكمن في تفعيل دور هذا المركز ليكون الجهة المشرفة على الجمعيات والمؤسسات الأهلية كافة، وتنمية وتفعيل روح التطوع وسط المواطنين، بما يؤدي إلى تعزيز الروح الوطنية، إضافة إلى الإشراف على أوجه الدخل ومصارف الإنفاق، لضمان عدم تسرب أي مبالغ مالية أو عينية لمراكز الشر الإرهابية التي لا تتربص بهذا الوطن وتحاول الكيد له. ومما يزيد من أهمية اضطلاع المركز بمهامه هو أن مجتمعنا السعودي عُرف على الدوام بأنه مجتمع ترتفع فيه نسبة الخيرية بين أفراده، وتزداد الرغبة في مساعدة الآخرين، عطفا على ما تربّوْا عليه من قيم الأصالة والشهامة والكرم المستمدة من العمق العربي، وما نشؤوا عليه من أخلاق إسلامية فاضلة تنادي بالتكافل والتآزر. لذلك فإن مساهمات السعودية -حكومة وشعبا- في الأعمال الخيرية والإنسانية حول العالم هي الأعلى على الإطلاق، حسب شهادة الجهات الدولية العاملة في هذا الشأن، وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية، ولا شك أن هناك حاجة ماسة لتنظيم هذه المساعدات وتوجيهها في الإطار السليم، ليس فقط لضمان عدم تسربها للمجاميع الإرهابية والعصابات الإجرامية، بل لضمان أنها تسهم في تحقيق الأهداف المرصودة حسب درجة الاحتياج، وأن لا يكون هناك تكرار لتقديم المساعدات لجهة واحدة. إضافة إلى ذلك فإن هناك دورا آخر في غاية الأهمية ينتظر من المجلس الاضطلاع به، وهو توجيه وترشيد القدرات الشبابية الهائلة التي يمتلكها مجتمعنا -ولله الحمد- والاستفادة من الرغبة الجارفة الكامنة في صدور أبنائنا للإسهام في الشأن العام، ووضع الضوابط اللازمة والأطر الصحيحة لتفعيل مبادئ العمل الطوعي التي يمكنها إنجاز كثير لهذه البلاد إذا تم استغلالها بالصورة المثلى. وقد شاهدنا جميعا خلال الفترة الماضية كيف أن شبابنا تدافعوا للاستجابة لنداء الوطن، وتفاعلوا مع منصة التطوع التي أعلنت عنها وزارة الصحة لتوفير قدرات وعناصر طبية ولوجستية كافية لمواجهة جائحة كورونا التي تشغل العالم حاليا. وتزداد أهمية ذلك إذا تذكرنا أننا مجتمع تغلب عليه نسبة الشباب وسط أفراده، والطاقات المتوفرة كفيلة بإحداث نقلة هائلة في مجتمعنا، إذا ما وجدت التوجيه السليم والتدريب العلمي والعملي بالقدر الكافي. كذلك فإن الاتجاه العالمي لزيادة الاعتماد على منظمات المجتمع المدني يفرض علينا مسايرة هذا الاتجاه، لأن هذه المنظمات باتت -في ظل النظام العالمي الجديد- أكثر موثوقية عند صناع القرار الدولي، وبحمد الله لدينا كثير من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، التي أثبتت كفاءتها خلال الفترة الماضية.

ختاما أعيد تكرار التنبيه إلى ضرورة الاهتمام بتوفير التدريب الحديث الكافي لتلك الكوادر الهائلة، والتخطيط العلمي على هدي رؤية المملكة 2030 التي نادت صراحة بزيادة الإسهام المجتمعي والاستفادة القصوى من طاقات الشباب، وهو ما أحسب أن القائمين على أمر مجلس الجمعيات الأهلية حاليا والمركز الوطني للقطاع غير الربحي مستقبلا يضعونه في حسبانهم، لكنا فقط نذكر بضرورة إدراك أن سقف الطموح المرتفع لدى أبناء هذه البلاد المباركة يقتضي التركيز على إنجاز تلك المهمة بالكيفية المثلى، التي تعيننا على إيصال حقيقتنا للآخرين، فصورتنا في الخارج -بحمد الله- مشرقة ناصعة، مهما حاول بعض أعداء الحقيقة الترويج لغير ذلك، ولا نحتاج أكثر من التخطيط السليم والتوجيه الصحيح والمتابعة المستمرة، لنقدم بلاد الحرمين في الصورة التي تستحقها، عطفا على ما تقدمه للعالم أجمع من إسهامات لا يكفي المجال هنا لذكرها.