تركيا اليوم حسب المؤشرات المتاحة قد تكون -أو هكذا يقول البعض- مقبلة على نجاح مشروعها في فرض الحكم الإخواني في ليبيا، وهو مشروع بديل عن فشل مشروعها في مصر، الذي فشل بسقوط حكم الجماعة هناك، وكانت تركيا تهدف من دعمه إلى إيجاد محور مصري صهيوني تركي إيراني (الإخوان لم يكونوا حاضرين في هذا الهدف وإن كانوا يُجيِّشون لإنجاحه) يرمي إلى إسقاط دول الخليج قاطبة وتقاسم الأرض والثروة بين دول هذا المحور، وهي فكرة تركية قديمة نص عليها داود أوغلو في كتابه العمق الإستراتيجي، وقد تم استخدام قطر كداعم مالي للفترة الماضية، مع تطمينها ببعض الوعود الكاذبة التي تجعلها متحمسة للبذل الأخرق في سبيل هذا المشروع.

يمكننا استيضاح هذا المشروع من خلال التناقضات الكبيرة بين هؤلاء الحلفاء الذين لا يُخفون حلفهم بل يظهرونه بطريقة رغم فجاجتها ما زال الأتباع البسطاء يحاولون إقناع أنفسهم بعدم وجودها.

فإيران والكيان الصهيوني يزعمان العداء لبعضهما رغم الشواهد الكثيرة على رسوخ علاقتهما، لاسيما من جانب إيران التي تُعد علاقتُها بالصهاينة حتى الآن سر بقائها، واللوبي الخفي المدافع عنها في الولايات المتحدة هو الذي يؤجل جميع الإجراءات لحسم موضوع بقائها، ويعطل أي مشروع لمعاقبتها ومتابعة علاقتها بأحداث 11 سبتمبر، أما الصهاينة فلديهم الاستعداد التام في أي ساعة يَرَوْن فيها انقضاء حاجتهم من إيران أن يغيروا مسارهم، ولن يخسروا شيئا.

أما تركيا والكيان الصهيوني فالعلاقة بينهما أرسخ وأعمق، وإن كانت تركيا تدَّعي فتور هذه العلاقة لأسباب دعائية، وكي لا تُحرِج محبيها من العرب، والصهاينة حريصون على بقاء هذه العلاقة وتطورها وانتقالها من اقتصادية عسكرية إلى ثقافية، ولا يمانعون من نقل كثير من أسرار تطوير التصنيع الحربي إلى الأتراك لحسم معارك في صالحهم كما هو الحال في ليبيا.

أما إيران وتركيا فقد تجاوزتا العداء التاريخي والتضاد المذهبي لتخدم كل منهما مشروع الأخرى.

يبقى الإخوان وقطر، فالإخوان بسبب ضعف بصائر قاداتهم يتم استخدام توجهاتهم الدينية لإكساب المشروع القذر غطاء دينياً يستقطب النخب المتدينة التي تعد كل من يطعن في أي عمل إخواني تركي طاعناً في الدين وهذا للأسف ما حصل، فهم آلة هدم يُستَخدَمون في ليبيا لإتمام ما فشلوا فيه في القاهرة.

أما قطر فليست سوى صندوق مالي يُعللونها بالآمال وسيتم الاستغناء عنها وبيعها لمن يدفع أكثر، وهنالك سوف نقول: إن التاريخ يعيد نفسه، ففي عام 1913 باعت الدولة العثمانية قطر إلى بريطانيا في اتفاقية تمت في لندن تنازلت فيها الدولة عن حقوقها في قطر، والمرجح أن الاستغناء عنها سيكون بعد النجاح في ليبيا، إذ إن الأرض الليبية قادرة على تمويل مشروع هذا المحور في المنطقة، وهذا سبب الحرص التركي الذي دفعها إلى التدخل عسكريا كي لا تسمح بتكرار تجربة الفشل التي صُدمت بها في مصر. الشرح السابق يفسر لك الصمت الأوروبي والأمريكي عن التدخل التركي في ليبيا، إذ لا يُمكن التصديق بأن حلف الناتو الذي يعد البحر المتوسط بحيرة له عاجزٌ عن منع القوات التركية من اختراقه والوصول إلى الشواطئ الليبية، وهو الحلف الذي لم يأخذ ساعات حتى اتخذ قراراً بالتدخل الجوي لدعم الثورة، ليصبح الفاعل الحقيقي في إسقاط القذافي، وهو الحلف الذي تخلى فوراً عن ليبيا بعد إسقاط الحكومة المركزية وترك البلاد نهباً للخلافات، هذا الحلف يصمت اليوم عن تدخل تركيا التي طالما أرعد زعيمها وأزبد في وجه دول الناتو، ولا تزال في الذاكرة القريبة تهديداته لهولندا، واستخدامه اللاجئين السوريبن في ابتزاز المجموعة الأوروبية.

الولايات المتحدة التي تصر دائما على منع أي دولة من التدخل في دولة أخرى عسكرياً دون موافقة الأمم المتحدة، لا تلتفت إلى هذا المبدأ في التدخل التركي في ليبيا، وتَمُر المحادثة التلفونية التي أجراها ترمب وإردوغان السبت 30 رمضان الماضي دون أن يحتج ترمب على التدخل التركي، وكان الحديث حول ضرورة التهدئة والحل السياسي ودخول المساعدات الإنسانية!.

هذا الصمت يفسره أنصار إردوغان بأنه الهيبة من المارد التركي وقوة إردوغان السياسية والاقتصادية، إلى آخر الهُراء، والحقيقة أن الذي حملهم على الصمت هو التغلغل الصهيوني في أجهزة القرار الأوروبي والأمريكي، وهو الذي حمل الناتو بجميع دوله على ترك السفن الحربية التركية تعبر المتوسط طولاً وعرضا دون أي تدخل يؤيده النظام الدولي ومواثيق الناتو.

ماذا لو أن هذه الأساطيل التركية توجهت للاستيلاء على ميناء اللاذقية، هل ستوافق دول الناتو وتصمت كصمتها الحالي؟

الجواب: لا.

وتواطؤ الناتو هذا يفسر الصمت الأمريكي على إنشاء قاعدة تركية في قطر، قَدِّر معي لو أن القاعدة كانت صينية أو روسية، هل تستطيع قطر المُوافَقَة عليها، أو هل ستسكت الولايات المتحدة عنها وكأن أمراً لم يكن؟

الجواب: لا.

وأيضا حين اتفقت تركيا مع السودان على إنشاء قاعدة عسكرية في سواكن في البحر الأحمر، حيث الممر الدولي الأهم في العالم، كيف سكتت دول أوروبا مجتمعة وسكتت الولايات المتحدة، وكيف سكتت دولة الكيان الصهيوني، وكل هؤلاء يُصَنِّفُون تركيا ظاهرياً في خانة الأعداء، افرض أن السعودية أو مصر وهما جارتان للسودان وشريكتان له في الإطلال على البحر الأحمر أرادتا مجتمعتين أو متفرقتين إنشاء قاعدة عسكرية في سواكن بدعوة من الحكومة السودانية، هل ستوافق الدول آنفة الذكر؟

الجواب: لا.

الجواب بـ«لا» في الأسئلة السابقة يصب في خانة تأكيد حقيقة المحور الرباعي: طهران، أنقرة، تل أبيب، وكان من المفروض أن تكون القاهرة هي الرابعة، والسعي الآن لتحل طرابلس بديلاً مناسباً، لو نجحت تركيا في دعم حكومة الإخوان هناك.

كثير من الليبيين يتصورون أن مجيء تركيا يعني التنمية والاستثمار والاستقرار.

والحقيقة أن أي حزب يعمل في مشروع غير وطني لحكم بلد ولو كانت بلده لن ينفع شعب ذلك البلد، بل يعني استنزاف ثروة البلاد للإنفاق على المشروع الخارجي.

الحكومة التي سيأتي بها الدعم التركي ستجد نفسها في مواجهة استعمار جديد يطلب منها أولاً سداد تكاليف الحرب أو الهيمنة على مصادر الثروة في ليبيا من أجل سداد التكاليف.

كما ستقوم هذه الحكومة بالإنفاق على تكاليف المشروع المشترك للمحور المشار إليه من دعم ثورات وانقلابات وإعلام موجه من أجل تقاسم المنطقة، بالضبط كما هو حال إيران وقطر، فهما دولتان لا تخدمان مشروعاً وطنياً، بل مشروعاً توسعياً لصالح الفكر الصفوي في إيران والفكر الإخواني في قطر.

المهم ماذا نفعل الآن؟

المسؤولية اليوم تقع على عاتق النخب السياسية الليبية وحدها.

إن دعم فريق على فريق لن يؤدي إلا إلى مزيد من البلاء والاستنزاف ولن يُحقق شيئاً وسيكون ضرره أعظم من نفعه.

فعلى تلك النخب أن تكون ليبية أولاً، لأن الانتماء لغير ليبيا في هذا الوقت الحرج يعني استمرار بلادها ميدان حرب بالوكالة، حتى لو انتصر أحد الطرفين على الآخر فإن النصر الحقيقي هو للدولة الداعمة للمنتصر على أرض المعركة، وهي التي ستوجه سياساته الاقتصادية والتنموية وفق مصالحها وليس وفق مصلحة الشعب الليبي.

لذلك أجد الرجوع إلى اتفاق الصخيرات الذي اعتبره الطرفان لاغياً هو الحل الأمثل، وهو الحل الذي يجعل ليبيا لليبيين، إضافة إلى أنه يحظى بدعم دول العالم الإسلامي في مؤتمر مكة الذي نظمته منظمة التعاون الإسلامي عام 1440.

ونتمنى من الدول الإسلامية اليوم الإلقاء بثقلها في سبيل إيقاف التدخل التركي والمشروع الإيراني الصهيوني في ليبيا عبر الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وإقناعها بقطع علاقاتها بأي أطراف خارجية داعمة للصراع.