متلازمة الوطن والقبيلة قديمة قدم الإنسان. يقول الحق جل وعلا (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، لذا فإن ثنائية الوطن والقبيلة وجدت منذ أن استعمر الله الإنسان في الأرض. وفي بلادنا التي هي أصل العرب وموطن القبائل العربية كانت القبيلة تعد الأمان للفرد والمجتمع المنتمي لها، ومن ليس له انتماء لقبيلة لا يأمن على نفسه وماله، لذا فقد كانت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسلطة والنفوذ تخضع لقوانين قبلية صارمة، وكان هم القبائل التفوق والنفوذ والهيمنة على أكبر قدر من الموارد، فعلاوة على كثير من مكارم الأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة مثل الكرم والشهامة والنجدة وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، التي كان يتسم بها المجتمع القبلي بشقيه الحضري والبدوي، كان المشهد مشهدا مخيفا في جزيرة العرب قبل الإسلام بسبب تناحر القبائل وصراعها، إما أشتاتا أو أحلافاً، حتى بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلت القبائل في جزيرة العرب للإسلام، فهذب الدين الحنيف سلوكها، وأقر ما تتسم به من مكارم الأخلاق وصبغها بصبغة دينية، فانطلقت القبائل تحت راية الإسلام تنشر رسالة السماء الخالدة، وبعد دولة الخلافة الراشدة قامت الدولتان الأموية والعباسية، وتطور المجتمع القبلي، وتشكلت المدن والحواضر الإسلامية في معظم البلدان التي فتحها أبناء قبائل الجزيرة العربية.

ودار الزمان دورته لتنحسر سطوة النظام السياسي الذي يحكم أبناء الوطن في بلادنا، فعادت كل قبيلة لحكم نفسها، وعادت النفس البشرية لما جبلت عليه من حب الهيمنة والتملك، حتى قيض الله لهذا الوطن الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، الذي اجتمعت كل قبائل الوطن تحت رايته.

ونشأ ذلك الكيان العظيم الذي وصل نفوذه إلى دول مجاورة، وهذا ما أزعج الباب العالي في تركيا العثمانية، التي شعرت بأن الدولة السعودية والدعوة السلفية خطران يتهددان نفوذها، لاسيما وأن الدعوة السلفية كشفت عن تشويه الدولة العثمانية للإسلام بإعلائها من شأن البدعة المتمثلة في التصوف الغالي، الذي كان يتدين به السلاطين العثمانيون. فسيروا الجيوش لإسقاط الدولة السعودية الأولى، وسرعان ما استعاد السعوديون قواهم لتنشأ الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبدالله الذي التفت حوله قبائل الوطن، ليخلفه بعد وفاته رحمه الله ابنه فيصل، الذي ما إن توفي حتى دبت الفوضى وسقطت الدولة السعودية الثانية، لتدخل بلادنا في فوضى عارمة بسبب غياب الدولة المركزية، وعاد التناحر بين القبائل على النفوذ والثروة، ليشرق فجر الخامس من شوال لعام 1319هـ عن فجر جديد ونصر كبير للوطن، باستعادة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ملك آبائه وأجداده، لتتبارى القبائل في التوافد على الرياض لإعلان الولاء والطاعة لسيد هذه الأرض الطاهرة جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -يرحمه الله-، لتتطهر قلوب أبناء الوطن من ترسبات القطيعة والتشاحن، وتنشأ في بلادنا أول وحدة إسلامية، لم تعرفها الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث والمعاصر. وكان أن انتهج الملك عبدالعزيز يرحمه الله أسلوبا فريدا في إنشاء المجتمعات الحضرية.. بانتهاجه إستراتيجية متفردة في توطين قبائل البادية، ودمجها في القبائل الحضرية عبر إستراتيجية بسيطة وملهمة، وهي إستراتيجية البئر والكتّاب، عبر إنشاء الهجر وتشجيع القبائل البدوية على ترك حياة البادية وإنشاء تجمعات حضرية، فكان أن حفرت الآبار، وبنيت المساجد، وتم توفير كل ما من شأنه أن يساهم في توطين البادية واستقرارها، فنشأت الهجر التي تحول معظمها إلى مدن، وشهدت بلادنا أجمل انصهار وطني عرفته الشعوب الإنسانية، وكانت القبيلة هي الرافد القوي لذلك الانصهار، بالتفافها حول القيادة التفاف السوار بالمعصم، وأصبح الولاء والفداء للوطن مقدما على القبيلة التي تساهم مشيخاتها في تثبيت هذه القيمة العظيمة، حيث جعلت من نفسها أداة من أدوات الدولة الساهرة على أمن الوطن وتثبيت قيم الولاء والسمع والطاعة للوطن وولاة الأمر، لنقول بكل فخر إننا ننتمي لقبائلنا نسبا وحبا، بولائنا وفدائنا المطلق لقبيلتنا الأم قبيلتنا الكبرى المملكة العربية السعودية.

وفي الختام نسأل الله العظيم أن يحفظ بلادنا من شر الأشرار وكيد الفجار، وأن يجمع قلوبنا على قلب رجل واحد في ظل ولاة أمرنا حكامنا آل سعود حراس العقيدة والدين، ممثلين في مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله ورعاه، وأمد في عمره ومتعه بالصحة والعافية وطول العمر، وسمو سيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ورعاه، كما نسأله جلت قدرته أن يبارك في جهود عين ولاة أمرنا في منطقة عسير، صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال أمير منطقة عسير.

والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.