لا يعد النقد الأدبي في الثقافة العربية فرعا أدبيا جديدا، ولم يكن من التخصصات الإنسانية المستوردة من ثقافة أجنبية، فقد عرف العرب القدماء البلاغة والنقد الأدبي بصورة ناضجة منذ القرن الرابع الهجري، ولهم فيها نظريات متقدمة كنظرية النظم لعبدالقاهر الجرجاني، التي تعد سابقة لعصرها، وتبرهن أن الثقافة العربية كانت منتجة معرفيا.

فكيف تحولت هذه الثقافة من منتجة إلى مستهلكة، وكيف أصيبت بالجمود؟ لا يخفى علينا اليوم أن الثقافة العربية تحولت إلى ثقافة تابعة، وأصبحت البيئة الأكاديمية في كثير من أقسام العلوم الإنسانية بيئة تابعة ومستهلكة بصورة مرضية، ولعل أهم شاهد على هذه التبعية، انتشار ما يعرف بالنقد الحديث أو المعاصر، الذي يعني حقيقة النقد المتصل بالثقافة الأوروبية والمتأثر بها والمستهلك لها.

طرحنا النظرية البنيوية نموذجا، وطرحنا كتاب «المرأة واللغة» لعبدالله الغذامي مثالا على تطبيق هذا النموذج كما ما سيأتي ذكره. دخلت البنيوية مجتمعنا الفكري في حقبة الثمانينات الميلادية، وكان المبتعثون للجامعات الفرنسية والبريطانية هم الوسيط لدخول هذه النظريات، وكان الغرض من دراسة الطلاب مبنيا على أساس وجود نقص في الموارد الذاتية، ولسد هذه النقص فرضت الحاجة للانفتاح على الآخر، والاطلاع على نتاجه المعرفي، ونقل هذا النتاج لسد الحاجة الداخلية بغض النظر عن وجود أي اختلافات فكرية وثقافية.

دخلت النظرية البنيوية وغيرها من النظريات الغربية في الأوساط الأكاديمية والثقافية، اعتقادا بأنها طريق مفروش بالورود نحو التحديث والحداثة، ولسد حاجات داخلية آنية، وهذا في الحقيقة لم يؤد إلى سد الحاجة بقدر ما أثار المزيد من الحاجات التي لا تشبع أبدا، ومع المزيد من الاحتياج الذي قاد نحو المزيد من الاستهلاك أصبح من المحال تلبية الحاجات الداخلية بالإمكانيات الذاتية، حتى أصبحت الجامعات المحلية تفرض على منسوبيها الدراسة في الخارج حتى لا يفوتها قطار الحداثة السريع.

النظرية البنيوية نشأت في أوروبا في ستينيات القرن العشرين، تأثرا بالمجتمع العلمي المزدهر في القارة العجوز بداية من القرن التاسع، الذي جعل النقد الأدبي يميل نحو النزعة الشكلانية، بوصف الأدب موضوعا جماليا وليس ممارسة اجتماعية تتأثر بالثقافة والتاريخ، يقول تيري إيغلتون أحد أهم الباحثين في النظرية الأدبية واصفا الأدب من منظور بنيوي: «فالأدب، في الواقع ليس مجرد تجمع عشوائي لكتابات مبعثرة عبر التاريخ، فإذا ما تفحصته بدقة يمكنك أن ترى أنه يعمل من خلال قوانين موضوعية معينة، يمكن للنقد ذاته أن يصبح منظما من خلال استنباطها، وهذه القوانين هي الصيغ والانماط الأولية والأساطير والأجناس المتنوعة التي بنيت منها كل الأعمال الأدبية».

يعتقد البنيويون أن النص الأدبي عبارة عن بنية لغوية مستقلة ذاتيا، ونظام من العلاقات منفصل عن أي مرجعية تاريخية خارج نطاق النص، ودراسة هذه العلاقات اللغوية بعيدا عن أي مرجعية دينية أو تاريخية أو ثقافية، بصفتها علاقات كونية مشتركة ستكون أقرب للعلمية والموضوعية. دعونا نطرح مثالا بسيطا لنص قصير جدا، استشهد به تيري إيغلتون في كتابه نظرية الأدب:«صبي يغادر البيت إثر نزاع مع والده، وينطلق سيرا على الأقدام عبر غابة في حر الظهيرة ثم يسقط في حفرة عميقة. ويخرج الأب باحثا عن ابنه، ويصل إلى الحفرة ويمعن النظر فيها، لكنه لا يستطيع أن يرى ولده بسبب الظلمة. وفي اللحظة التي ترتفع فيها الشمس إلى نقطة فوقه مباشرة، تنير بأشعتها أعماق الحفرة وتتيح للأب إنقاذ طفله. وبعد مصالحة بهيجة، يعودان إلى البيت معا».

هذا النص القصير قد تختلف تأويلاته وفهمه من شخص لآخر، وحسب تيري إيجلتون، ففي جذر كل أدب تكمن أربعة أصناف سردية، منها التراجيدي والرومانسي والساخر، ويمكن نظريا في النماذج الأدبية أن يكون البطل في الأسطورة متفوقا على غيره في النوع، ويكون في الرومانسي متفوقا في الدرجة، وهكذا مع كل نموذج أدبي، يتفاوت الأبطال في النوع والدرجة بتفاوت النموذج السردي، ومن خلال هذه العلاقات يفسر تيري إيغلتون -بنيويا- قصة نزاع الصبي مع أبيه على النحو التالي: «الأدنى يتمرد على الأعلى، ويعتبر مسير الصبي عبر الغابة حركة على محور أفقي، بخلاف المحور العمودي (أدنى/‏أعلى) أما السقوط في الحفرة، وهي مكان تحت مستوى الأرض، فيدل على أدنى مرة ثانية، بينما تدل الشمس على أعلى، وبسطوع الشمس على الحفرة، فإنها تنحني بمعنى ما إلى أدنى، والمصالحة بين الأب والابن تستعيد توازنا بين أدنى وأعلى».

بنزعة غارقة في الشكلانية يفسر البنيوي نصوصه الأدبية كما رأينا في المثال أعلاه، في علاقات أشبه ما تكون بالعلاقات الرياضية والكمية، وبلا شك هي تعبر عن التقدم الفكري في أوروبا في حقبة ما من حقب التاريخ وتأثرها بالنزعة «العلموية» الطاغية آنذاك، فازدهار البنيوية كان ضمن أطر ثقافية وتاريخية معينة ومرآة عكست الهموم والآمال الاجتماعية فيها.

مصطلحات كالبنيوية والتشريحية والنسقية، دائما ما يرددها عبدالله الغذامي مؤلف كتاب «المرأة واللغة» الذي يعتبر أغرب وأطرف ما كُتب في عالم النقد الأدبي، فيه تناول بالنقد كتاب ألف ليلة وليلة، المجموعة القصصية الشهيرة التي جاءتنا بلا مؤلف، فلا أحد يعرف اسم كاتبها أو أصله أو جنسه، ولكن الغذامي له وجهة نظر مختلفة وغريبة ومضحكة إلى حد ما.

فهو يعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة نص أنثوي بناء على بعض المعطيات التي ذكرها في كتابه، هو يعتقد بأن شهرزاد، بطلة القصة، قاومت الرجل (شهريار) بسلاح اللغة، يقول: «قامت هذه اللعبة المجازية على تدجين المتوحش، وذلك بإخضاع الرجل وترويضه لمدة ألف يوم ويوم. وهذه مدة تعادل الزمن الطبيعي لفترة الحمل والرضاعة» ونلاحظ هنا كيف ربط الغذامي بين عدد ليالي الكتاب وبين عدد أيام الحمل والرضاعة عند المرأة، ولا أدري ما العلاقة بينهما؟

وإثباتا لأنثوية النص وضع علاقة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها، تربط بين جسد النص وبين جسد المرأة، وذلك من حيث التوالد والتناسل والتمدد، فجسد المرأة يتمدد بفعل الحمل ويتوالد ويتناسل مثل جسد نص (ألف ليلة وليلة) الذي يتمدد ويتوالد هو الآخر بالحكايا، فالليلة الأولى كما يقول الغذامي تمددت لتصبح ألف ليلة وليلة!!

ويقول: «إذا كان النص الذي يلد وينتج هو بالضرورة نصا أنثويا»، طبعا كل هذه الإثباتات التي تؤكد على أنثوية النص ضعيفة ولا تقوم على أي أساس علمي وموضوعي، فهناك مئات الأعمال الأدبية التي كتبها ذكور وتتصف بصفة التمدد والتوالد والنهايات المفتوحة، ولعل أشهرها رواية (مئة عام من العزلة) للروائي الكولومبي جابرييل ماركيز، فهذا الرواية تتمدد وتتوالد حالها كحال ألف ليلة وليلة، وهذا يعطي دلالة واضحة على أن استيراد النظريات من بيئة اجتماعية واستزراعها في بيئة مختلفة قد يأتي بنتائج عكسية وأحيانا طريفة، ولنا في نظرية «النص الأدبي الذي يتمدد ويتوالد مثل جسد المرأة الحامل» خير مثال.