بعد ما فتح المنع عن الناس وفاض البشر من بيوتهم كأموات خرجوا من قبورهم وعادوا إلى الحياة خرجت من منزلي أبحث عن أشخاص آنس بحدثيهم ولا يملون من حديثي معهم، فمررت بمجموعة من الشبان أعمارهم بين العقدين الثاني والثالث، فجلست معهم قليلاً أسمع حديثهم وأتحرى فرصة لأبدأ بالحديث معهم وأستأثر الحديث ولو بضع دقائق لكوني أنا الشخص المسن فيهم، العجيب أنه لم أحصل على فرصة للحديث أو الاستئثار بكلمة واحدة، لأنني وجدت نفسي غريبا عنهم من حيث أذواقهم واهتماماتهم، هم في واد وأنا في واد آخر.

رجعت إلى بيتي وتفكرت في شأني، كنت أظن أنني "شاب" فوجدت نفسي غريبا بين أوساط الشباب، وتوقعت أن المرء إذا تجاوز الأربعين من عمره فإنه بلغ أرذل العمر في هذه المرحلة، فلا هو مع الشباب ولا يعد من الكهول، وانتقلت بي النظرة من شأن نفسي وشأن مستقبلي إلى نظرة أخرى فقلت وداعا يا أيها الشباب فإنني اليوم سأبكيك لا لأنني تمتعت فيك بالمرح والغزل واللهو، بل لأنك كنت أنت مرحلة الشباب التي كنت أرجو فيها وعلى ضوء هذا الرجاء كنت أهنأ وأنعم.

اليوم أعتقد أن العمر انحرف بي من الجانب المشرق إلى الجانب المظلم والمطلوب مني في هذه المرحلة العمرية أن أنظر في مستقبل أبنائي لأن مستقبلي أصبح ماضيا ولن يعود أبداً، وإن تشبثت بروح الشباب وارتديت ملابس ربما لا تليق بسني.

اليوم سأختلف مع الأطباء، مع طبيب السكر وطبيب المعدة وغيرهم فسينكرون مني ما سأنكر منهم لأنهم سيقولون لي لا تفعل ولا تأكل وأنا بالتأكيد سأعارضهم وأخالفهم لأن النفس أمارة بالسوء ولا أستطيع أن أردها عن ملاذها وإن كنت تجاوزت الأربعين.

كنت أنعم في صباي بكثير من الملاذ الوهمية فكنت أجد في نفسي القوة والحماس المتوقد، ولم أعلم أن هذه القوة مؤقتة، وهذا الحماس سوف ينطفئ لأنه مرتبط بمرحلة الشباب، وستبدأ طاقة الإنسان بالانحدار وسأقبل على عالم مجهول لا أعلم ما يكون حظي منه.

هذه هي الأفكار التي ساورتني بعد لقائي مع أولئك الفتية، ولكن هل تعتقدون أنني سأحبط وسأهزم، وأسقطت على الموت أم الموت يسقط عليَّ لأنني تجاوزت الأربعين؟، كلا سوف أجدد حياتي وأتشبب وأعيش بأحلام وردية وسأطيل النظر في المرآة وسأغير - ستايل - ملابسي وسأثبت لمن حولي بأنني لا أزال قوياً وجذاباً ومؤثراً وسأبحث عن فتاة صغيرة سن كزوجة تلاعبني وألاعبها وتغمض عيني بشال أسود وأدور أنا في البيت أبحث عنها ولا يوجهني نحوها إلا ضحكاتها علي.

الحياة حلوة كما تغنى بها فريد الأطرش ـ الحياة غنوة ما أحلى أنغامها الحياة حلوة بس نفهما ـ ولكن ليس هذا هو فهم الحياة بصورتها الحقيقية فمن تجاوز الأربعين بالتأكيد أنه وصل إلى النضج وإلى القيادة، وإلى إدراك الذات ومعرفة مواطن قوته ومواطن ضعفه بشكل موضوعي، واكتسب كماً كبيراً من المعرفة والخبرة، وعلى ذلك الواجب أن ينقل كل من تجاوز الأربعين معرفته وخبرته إلى من هو بعده من الأجيال، فسن الأربعين هو سن الرشد والوعي، فالحياة تبدأ بعد الأربعين.

نعم هي حياة العطاء والبناء، لا تنظر إلى الوراء يا من تجاوزت الأربعين ولا تختل موازينك وأهدافك، بل انظر ماذا ستقدم بعد الأربعين.