تنتشر في الأوساط الثقافية أفكار صنعت علاقة جدلية بين تعليم الموسيقى من جهة، والتطرف والتشدد عند الأفراد من جهة أخرى، أي أن الهدف من تعليم الموسيقى في المدارس والمعاهد والجامعات حول العالم، هو مكافحة التطرف في المجتمع، وهذه الكلام بلا شك غير علمي وغير موضوعي، فلا توجد علاقة سببية بين الموسيقى والتطرف، فهناك طوائف دينية متشددة حول العالم تمثل الموسيقى والأدوات الموسيقية جزءا من طقوسها الدينية، بل إن موسيقى الراب تتهم في الغالب بأنها عنيفة وتميل للسوقية والألفاظ البذيئة وتتصف بعنف الإيقاع والقافية، ومع أنها ليست قاعدة ولكنها سائدة في هذا النوع من الموسيقى، ومثال على ذلك، مغني الراب الأمريكي إيمينيم (Eminem) المثير الجدل بأغانيه التي تتهم بأنها تدعو للعنف والمخدرات بما تحتويه من العنف اللفظي وازدراء النساء. ومع ذلك ظلت موسيقى الراب من أكثر أنواع الموسيقى انتشارا حول العالم.

ففي كل مجتمعات العالم تنتشر الموسيقى بين الأفراد، فالناس قد يستمعون للموسيقى أو يتعلمون العزف على بعض الأدوات الموسيقية دون الحاجة للالتحاق بالمعاهد والمدارس الموسيقية، ومع ذلك فالتشدد والتطرف ما زالا موجودين في كل المجتمعات. إذن لماذا تقوم كثير من الدول حول العالم بتعليم الموسيقى في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها؟

في الدول الغربية تحديدا، حيث تحول مجال الموسيقى إلى صناعة، أي إلى مصدر حيوي لتوليد رأس المال وإنتاج القيمة المضافة، بعد أن دخلت الموسيقى عالم الأسواق وارتبطت بعجلة الاقتصاد، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من قطاع المال والأعمال في الدول الرأسمالية، فتحويل النشاط البشري إلى وحدات اقتصادية تولد رأس المال يمثل اليوم الطريقة العقلانية الوحيدة الممكنة لتنظيم الاقتصاد الحديث، فرأس المال هو القوة التي ترفع إنتاجية العمل وتخلق ثروة الأمم وببساطة هو دم الحياة في الأنظمة الرأسمالية.

صناعة الموسيقى أصبحت مجالا اقتصاديا رحبا يتكون من شركات وأفراد قادرين على خلق الأرباح من خلال إنتاج وبيع الموسيقى، ولإدارة هذا القطاع الهام في الاقتصادات الحديثة وتحقيق المكاسب والأرباح فإن قطاع الموسيقى يحتاج إلى أفراد محترفين -لا هواة- في صناعة الموسيقى، وهذا ما جعل للموسيقى وصناعتها أهمية بالغة في سوق العمل، وهذا ما يحتم على المدارس والمعاهد والجامعات إنشاء أقسام لتدريس الموسيقى لأنها أصبحت من متطلبات سوق العمل في الدول الغربية.

إن تعليم الموسيقى في العصر الحديث يمثل مرحلة انتقالية لتحويلها إلى صناعة ومصدر لإنتاج القيمة المضافة، ولا توجد جامعة حول العالم ادعت بأن مكافحة التشدد والتطرف هي الداعي وراء تدريس مقررات الموسيقى للطلاب، فالموسيقى موجودة منذ آلاف السنين، ولكن تحويلها إلى صناعة وربطها ببقية المجالات الاقتصادية هو مربط الفرس، حيث سيكون هناك شركات تنتج وتبيع المنتجات الموسيقية، وهذه الشركات لديها موسيقيون ومنتجون ومهندسو صوت وملحنون، وهناك وكلاء أعمال، ومشرفو حفلات، وكل هؤلاء يمثلون موارد بشرية ويرتبطون مع الشركة بعلاقة تعاقدية، وهذه الشركة لها مالكون يستطيعون إثبات ملكيتهم من خلال سندات أو تقسيم ملكيتهم من خلال أسهم.

هكذا تحولت الموسيقى من مظهر جمالي وأداة يوظفها البشر في أفراحهم وفي طقوسهم وفي أعمال حرة غير منظمة، إلى مجال اقتصادي، وعلم يحتاج إلى موارد بشرية محترفة لإدارته، في سبيل تحقيق الأرباح وتوليد رأس المال، بعد أن دخلت عالم السوق من أوسع أبوابه.