عرفت « ثقافة الحوش» بكونها نمطا في العمارة الإسلامية، يضم مجموعة من المساكن تتوسطها باحة يحيط بها سور خارجي له «بوابة» واحدة فقط تغلق ليلا. اشتهرت المدينة المنورة بعدد كبير من الأحواش، وصل عددها في وقت من الأوقات إلى ما يقارب المائة حوش. استمر استخدام الأحواش في المدينة إلى انطلاق توسعة الحرم النبوي الشريف أواخر الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، حيث انتهت الأحواش كأسلوب حياة. لكن القاص والروائي حسين علي حسين، وكأحد «حراس الذاكرة» سعى للإبقاء على تلك الأحواش حية في الذهنية المحلية، مدونا حكاية من ركام حكايات تراكمت على مدى قرون في تاريخ المدينة المنورة، ليقدمها للقارئ عبر أحدث رواياته «وجوه الحوش».

سفر برلك

يقول حسين لـ»الوطن»: تدور أحداث رواية «وجوه الحوش»، أثناء حصار الحلفاء والمتعاون معهم الشريف الحسين بن علي للمدينة المنورة، إبان الحرب العالمية الأولى (كان متعاونا مع الحلفاء)، وكان الشريف قائما على «منطقة مكة المكرمة» في ذلك الوقت، وكان قائد المدينة المنورة، من قبل الدولة العثمانية، القائد التركي «فخري باشا»، حيث عانت المدينة، وعانى أهلها من الحصار، الذي فرضه الشريف ومن يتعاون معهم، وما تبع ذلك الحصار من انفلات الأمن، وندرة الأقوات، مما دفع «فخري باشا» إلى إصدار أوامره، بتفريغ المدينة من سكانها، فيما عرف بـ»السفر برلك»، حيث انتشر أهل المدينة في عديد من المدن والقرى التي لم تطلها الحرب، أو لم ينعدم فيها القوت والأمان، وكان التهجير يتم عبر عديد من الوسائل، أبرزها قطار سكة حديد الحجاز.

أصوات المدينة

تتناول الرواية، تواري الكثير من أهل المدينة عن أنظار العسكر، خوفا من ذلك التهجير القسري، بعض السكان رحلوا سيرا على الأقدام مسافات طويلة، بحثا عن الراحة والقوت. ويوضح حسين علي حسين مضيفا: الرواية تعرض لهذه الواقعة من جوانبها كافة عبر عديد من الأصوات. كل صوت يروي مشاهد من معاناة الحصار من موقعه ونظرته. كل الأصوات كانت تنطلق من حوش أو حارة أو زقاق واحد، لأن المدينة في ذلك الوقت كانت مقسمة إلى عدة أحواش أو حارات أو أزقة، كل منها له باب يغلق ليلا، وعمدة ونقيب، يتوليان أموره من كل الجوانب، وهما يتبعان شرطة المدينة. وقد قدمت وصفا للحوش في مقدمة الرواية باسم «وجه الحوش»، حتى يتم تلافي تكرار وصفه في ثنايا النص. تنتهي أحداث الرواية، بمحاصرة قائدها «فخري باشا» في المسجد النبوي، وإلقاء القبض عليه من قبل القيادة التركية، أو ما بقي منها في المدينة المنورة، فقد كان ذلك القائد يرفض الاستسلام وتسليم المدينة للمنتصر (الحلفاء) والمنضوي تحت قيادتهم «الحسين بن علي» رغم إقرار الدولة العثمانية بهزيمتها في الحرب.

مقاطع من الرواية

لو اعتليت منارة، من منارات المسجد النبوي، بالمدينة المنورة، خصوصاً المنارة السليمانية، لرأيت الحوش، بكافة تفاصيله، قريباً منها. هو شكل دائري، يجاوره أحواش، أشكالها مربعة ومستطيلة. ذات مساحات متفاوتة، بجدران سميكة، بنيت بالحجارة السوداء الصلدة، والطين، والحشائش. حوش أغا المستسلم، له باب واحد، عريض، متين، من الخشب الخالص. له مقبض محاط بسوار من حديد أسود. وسط الباب الكبير، باب صغير، يفتح ويغلق، في حالات الطوارئ. أما الباب الأساسي، فإنه يفتح فجراً، ويغلق بعد صلاة العشاء. حيث في هذا الوقت، يكون كل ساكن، إلا فيما ندر، في منزله. وإمعاناً في الحرص، على الالتزام بغلق الباب، فإن نقيب الحارة، التي تضم عدة أحواش، ومعه العسة، يمران يومياً، وبانتظام، عند منتصف الليل، للتأكد من تمام الإغلاق! والعسة بالذات، وهو من أبناء بادية المدينة، اعتاد، عندما يفرغ من جس مقبض الباب، أن يطلق لصافرته العنان، قبل أن يواصل جولته التفقدية، على الأحواش الأخرى، حتى مطلع الفجر!

يمكثون في الحوش، حتى تتناسل ذريتهم، ومع الزمن، يصبحون وأهل الحوش عرقاً واحداً، مذهباً واحداً، عادات واحدة! لذلك لا تستغرب إذا قيل لك إن فلاناً من أصل هندي أو شامي أو إفريقي أو عراقي أو فارسي أو مجهول الهوية، وجد أرضاً أوته، والتحمت به، وأناسا شاركهم أكلهم، وشربهم، وسباتهم والذكريات في الحوش كثيرة، بعضها واضح، وآخر غامض، محير. لكن أوقع ذكريات الحوش، كانت واقعة حصار المدينة من جميع الجهات، ومن أناس متعددي المشارب، والعادات، فيهم الترك، والإنجليز، والأشراف، والألمان، وكان فخري تُرك باشا، هو قائد المدينة الصلب، الذي لم يخرج منها، إلا مقيداً، بعد سقوط الدولة الهميونية وانحصارها في ما يعرف الآن بدولة تركيا! الخياط الهندي القادم من مشهد علي، كان عينة، من كائنات كثيرة، أصبحت الآن، تدخل وتخرج من الحوش، مثله، مثل عشرات الأحوشة، التي تحوط المدينة، أو تتغلغل في داخلها. الفرق في المساحة، والعادات والأعراف، والمذاهب، والأكل والشرب، والتقاليد الاجتماعية، وقد آن الآوان، لتكسير الأسوار، والتحام كافة الأحواش، لتصبح كتلة واحدة، مثلها، مثل المدن والقرى، وإن كان اسم الحوش، سيظل باقياً، في سجل المواليد، والوفيات، والوقائع، لسنوات لا يعلم مداها، إلا خالق الحب والنوى!

بيوت الحوش، كلها من الطين، وهي جميعاً تطل على صحن الدائرة. لكل بيت واجهة واحدة. باب واحد. يفتح ويغلق بمفتاح طويل من الخشب. وهناك شباكان، واحد تحت والآخر فوق، ولكل شباك قاعدة، توضع عليها أواني الماء الفخارية، لتبريدها. وفي أعلى كل بيت مزراب، يرسل الماء مدراراً، عند هطول المطر، أو عندما تقوم ربة الدار برش السطح، في أمسيات القيظ، التي تزور الحوش، في أوقات معلومة. وبقدر ندرة المطر، فإن نزوله، بشكل مكثف، يعني قمة الأزمة والقلق، حيث تخر كافة البيوت! وهذا معناه، نشر الصحون والقدور، في الغرف، لاستقبال فائض الماء، الذي ينزل من السقوف. وسكان الحوش، يرفعون عادة، صلاة شكر، عندما يرحل المطر، مخلفاً أقل الأضرار، أو دون أن يسقط، بيت من البيوت!

هذا الحوش، من بابه، ملك لأحد الأغوات، وهو مؤجر بنظام الحكر، كل محتكر لوحدة سكنية، يدفع مبلغاً زهيداً، كل مطلع عام هجري للأغا، أو لوكيله أو لورثته، وهم عادة من الأغوات أو عبيدهم أو معاتيقهم. ولأن الفقر هو السائد الأكبر في الحوش، فإن سكانه، ينتظرون، بفارغ الصبر، موسم الحج، حيث يؤجر كل ساكن مسكنه، والعائد يدفع أجرة للبيت. وخلال الموسم، يحل الساكن وعياله في غرفة السطوح، حتى رحيل الحجاج! والأغا في الغالب، يسامح ويعذر أو يتنازل عن الأجرة، عن المتعسرين خصوصاً من تحل به أزمة، أو لم يؤجر منزله، في موسم الحج أو العمرة!

حسين علي حسين

كاتب وقاص سعودي

ولد بالمدينة المنورة 1949

أعمال

«رواية السويدي»

«الرحيل» 1398

«رائحة المدينة» 1414

«كبير المقام» 1407

«طابور المياه الحديدية» 1405

«ترنيمة الرجل المطارد» 1403

«رواية على حافة اليمامة» 1435