التنمية هي الحل، ومن ذا الذي يُمكن أن يُخالف في ذلك إذا علم أن مصطلح التنمية مرادف لمصطلحٍ قرآني هو الاستعمار في الأرض الذي هو الغاية من خلق الإنسان على هذه البسيطة؛ لأن الغاية المطلقة من خلق الإنسان هي الاستعباد لله وهي غاية يُشاركنا فيها الجن، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، أما الغاية من خلق الإنسان على هذه الأرض خاصة، والتي لا يشاركنا فيها الجن ولا غيرهم من المخلوقات فهي عمارة الأرض، حيث قال تعالى: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61] أي: «وجعلكم عُمَّارًا فيها» كما يقول الطبري (15 /‏‏368)، ولأجلها أمَدَّ الله بني البشر بالقوى الذهنية والبدنية وسخر لهم كل ما حولهم وما فوقهم وما تحتهم من مقدرات الأرض والفضاء؛ وهذا الاستعمار هو أحد مدلولات الاستخلاف الوارد في قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30] ومن واجبات المُسْتَخْلَف في عمارته لما مُكِّن عليه من الأرض أن يقوم بالحق ويتبع سبيل الله تعالى في كل جوانب حياته، كما قال تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26]. وسبيل الله تعالى هو إصلاح هذه الأرض وعدم إفسادها كما قال عز وجل: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعُوه خوفا وطمعا إن رحمت اللَّه قريب منَ المحسنِين} [الأعراف:56]. وعلى هذا فالتنمية هي الحل فعلًا، وكيف لا تكون كذلك وهي مراد الله عز وجل، وبها قوام الدين والدنيا، يَرغَدُ عيشُ الناس وينتشر الأمن وتُسْتَثْمر خيرات الأرض وتزدهر القوة الاقتصادية والعسكرية والصناعية؛ فتستكفي الدولة بمواردها وتستقوي على خصومها وتتقدم على منافسيها، وتصبح الأجواء أنسب ما تكون لتحقيق مقاصد الشرع بحفظ الكلياتِ الخمس ضروريِّها وحاجيِّها وتحسينيِّها. فالتنمية هي الحل، ليست مبدأً ليبرالياً كما يُوهِمُنا البعض؛ بل قيمة قرآنية نبوية قطعية الثبوت مستنبطة من نصوصٍ قطعيةِ الدلالة. أما التنمية حين يغادر طالبوها سبيل الله تعالى فإن مآل تنميتهم -وإن ظهر منهم الإصلاح في جوانب- إلى نقض غزلهم والإفساد على أنفسهم وعلى غيرهم وذلك من جانبين: الجانبُ الأول جانب قَدَرِيٌّ؛ حيث أخبر تعالى عن سنته في أخذ الأمم التي تخالف سبيله في وقت ذروة فرحهم واغتباطهم بما هم عليه، وعلى ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة يكفي منها في هذا المقام هذه الآية: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44].

أما الجانب الآخر فجانب كَسْبِيٌّ؛ إذ إن مخالفةُ قانون الله تعالى تؤدي حتمًا إلى وضع الأشياء في غير مواضعها؛ الأمر الذي ينقلب معه الإصلاح حتما إلى إفساد: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة: 11-12]. وتنزيل ذلك على الواقع الغربي يَسِيرٌ جدًا لمن تتبع واقعهم الاجتماعي والاقتصادي، وكيف أن مشكلاتهم في هذين الجانبين تتَّسع وتعيَا بها خططهم الإصلاحية.

يتوهم البعض في طغيان الفلسفات الحديثة: أن الليبرالية هي التنمية، وهي التي وصل العالم بها لما وصل إليه من العلم والتقنية والتقدم والرقي. وأمانةً أقول: إن الليبرالية كانت حقاً السبب الأول لكل ما يعيشه العالم اليوم من جوانب تقدم صناعي وتقني وزراعي وقانوني، وهي كذلك السبب في كل ما يعيشه عالم اليوم من جوانب فساد ديني وأخلاقي وقِيَمِي واجتماعي وبيئي.

فلا يشك مؤرخٌ أنه لولا فرانسيس بيكون وديكارت، وأضرابهما من رواد الليبرالية الأُول لَمَا حصلت أوروبا على ما حصلت عليه من التقدم في علوم التكنولوجيا والطب والفلك وغيرها وذلك: أن العقل الأوروبي كان مُحَاصَرًا بتعاليم الكنيسة الصمَّاء والتي حالت بينه وبين التفكير، واستعبدته استعبادًا حال بينه وبين النظر إلى كل ما يحيط به إلا من خلال الثقوب التي يتيحها له الآباء والقساوسة والكرادلة؛ لكن الليبراليون الأُول طالبوا بتحرير العقل من تابوت الكهنوت وتحرير كتابهم المقدس من تفسيرات الكهنة، عندها بدأوا ينظرون إلى ما حولهم بعقل علمي ناقد متسائل، فانفتحت لهم مغاليق الكيمياء والفيزياء وأقاموا على نتائج ذلك البناء العلمي الهائل الذي أنتج ما نعايشه اليوم من المخترعات التي خالطت حياتنا.

لكن السؤال هنا: كيف نشأت الليبرالية تلك؟ وكيف تسنَّى للعقل الغربي أن ينفتح فجأة ويبني هذه الحضارة؟ إن القول بأن العقل الأوروبي استيقظ فجأة ودون أسباب كما يُحَاول أكثر مؤرخي النهضة صُنعه من أمثال «هيربرت فيشر» في كتابه أصول التاريخ الأوروبي الحديث لَأمر مثيرٌ للسُّخرية، فهم يحاولون ربط هذه النهضة بأثينا وإسبارطة وقونية قبل أكثر من ألفي عام؛ ليزعموا أن الذي حصل هو مجرد نومة طويلة استغرقت كل تلك المدة، ثم استيقظ العقل الأوروبي فجأة ليلتفت إلى تراثه اليوناني القديم ثم يعاود النهوض، هكذا ببساطة! إن المؤرخين الأوروبيين يهملون عمدًا السبب الرئيس في يقظتهم والمَعِين الأول لاستفادتهم وهو التأثر بالمسلمين بالأندلس عبر الجوار، وبشكل أكبر عبر الحروب الصليبية حيث خرج إلى الشام ومصر منهم مئات الآلاف من الأمِّيين الجهلة محاربين؛ ليجدوا أمامهم مدنًا مرصوفة مرتبة عامرة بالمدارس والمكتبات والمستشفيات والمصحات والمختبرات وشعوبا قارئة كاتبة راقية في أخلاقها وتعاملها؛ ومن هناك بدأت رحلة الانتقال لتتحول القيادة الحضارية من المسلمين إلى الغرب؛ حيث بدأت إرهاصات ظهور الليبرالية من القرن الثالث عشر الميلادي ويعد «روجر بيكون» [تـ1214م] وهو من أوائل الأوروبيين الذين بدأ بهم التدريج نحو إعلان التمرد الكامل على الكنيسة.

أصبحت الليبرالية في وقتها في القرن الخامس عشر ضرورة فكرية للأوروبيين؛ إذ إن آراء الكنيسة في العلم والكون والحياة كانت مُخجلة، ولا يُمكن لعقل استفاد رحابة التفكير من الشعوب المسلمة المجاورة أن يتوقف عندها. كانت فكرة نفي القداسة عن المعلومات السائدة والتي تبناها فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت، وفكرة الاستقراء عند بيكون، والشك عند ديكارت مستفادتين بشكل واضح من علم الكلام عند المسلمين، وكانتَا مدخلًا للبدء بالعلم التجريبي الذي هو الآخر مستفاد من الفيزيائيين والفلكيين والكيميائيين والأطباء المسلمين: لقد كانت الليبرالية في بدايتها ضرورة لأوروبا؛ لأن أوروبا لو بقيت تعتمد تفسيرات الكنيسة للعهدين القديم والجديد، والقليل من فلسفة أرسطو التي أدخلها بعض آباء الكنيسة إلى الدين النصراني ثم أُضْفِيَت عليها القداسةُ، لو بقيت أوروبا تعتمد ذلك لاستمرت حتى اليوم تقتل كل مُخترِع ومُكتشف أو تُلزمه بالتوبة كما فعلوا مع كوبر نيكوس وجاليليو.