قامت سياسة المملكة منذ سنوات طويلة على مواجهة آفة الإرهاب بعمل مؤسسي يقوم على إيراد الحجة والدليل القاطع، إدراكا منها لحقيقة أن العمل الأمني والعسكري- رغم أهميته - لا يكفي وحده لاجتثاث هذا الداء، وأن الأفكار الضالة التي يحملها من تورطوا في هذه الجريمة النكراء ينبغي أن تواجه بأفكار صحيحة، تقوم على دحض الشبهات، وتفنيد الذرائع الواهية التي يحملها المتطرفون، وتبيان الحقيقة، وتأكيد براءة الدين من كافة تلك الشبهات التي ألصقت به زورا وبهتانا، مستعينة في ذلك بمجموعة من علماء الدين الثقات الذين أكرمهم الله تعالى بعلم شرعي صاف، وثلة من علماء اللغة والمنطق الذين دخلوا مع الموقوفين من الإرهابيين في حوارات مطولة، انتهت بعودة كثيرين منهم إلى جادة الحق وسواء السبيل. لذلك حققت التجربة السعودية نجاحا منقطع النظير، وأصبحت نموذجا تسعى معظم دول العالم إلى تطبيقه وإعادة تكراره.​

منذ إنشاء المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال) في مايو 2017، فقد كان إضافة غير مسبوقة، ركز معظم جهوده على تفنيد الشبهات التي يثيرها الإرهابيون، وتأكيد الدور الذي يقوم به أرباب الفتنة وشيوخ الضلال ممن يريدون إغواء الشباب واستغلالهم لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية، عبر سبل وأساليب ملتوية كثيرة، تقوم على تحوير الوقائع، وتزييف الحقائق، وانتزاع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من سياقها وتسخيرها لما يهدف أغراضهم. ​

تصدى المركز لهؤلاء في معارك فكرية مطولة شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة ودهاليز الإنترنت التي جعلها المتطرفون ساحة لهم لتجنيد الأتباع، وألحق بهم هزائم فكرية داوية، لا تقل في أثرها وتأثيرها عن تلك التي ألحقتها بهم القوات الأمنية في ميادين القتال.​

انتهج المركز لعمله أسلوبا يقوم على الجانب العلمي، دون تقليدية أو نمطية، وسار في طريق محدد مرسوم بدقة. أبرز ما يميز عمله هو اللغة التي يستخدمها لإيصال رسائله، فقد تم اختيار معظم اللغات الحية في العالم، وبدأ في تفنيد الشبهات بلغة واضحة رصينة، وكلمات منتقاة بعناية فائقة، تناسب أذواق الشرائح المستهدفة، دون إطالة أو إسهاب، يؤيدها الدليل وتعززها المعلومة المدعمة بالأرقام والحقائق. لذلك كانت تلك الرسائل بمثابة قذائف مدمرة لمخططات قادة الإرهاب، نسفت مؤامراتهم وأبطلت خططهم الشريرة.​

كذلك تفرد المركز بأنه امتلك زمام المبادرة، وانتقل من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، ومن حالة رد الفعل إلى حالة الفعل، فلم يعد ينتظر الإرهابيين ليقوم بالرد على شبهاتهم، بل ركز عمله على متابعة الرسائل التي يرسلونها واستقراء الأكاذيب التي يريدون الترويج لها، فيتصدى لها بالدليل القاطع والحجج المقنعة المستمدة من الكتاب والسنة، ويوضح ضررها وتعارضها مع الفطرة السليمة والمنطق الصحيح. ويولي المركز كذلك اهتماما كبيرا بالدعوة إلى التسامح والتعايش، وتأكيد عدم دعوة الإسلام إلى العزلة والانكفاء، وتعزيز الأخوة الإنسانية بين كافة بني البشر، والابتعاد عن التعميم المخل عند إطلاق الأحكام.​

كل ذلك المجهود يتم في وقت وجيز. فهناك من متخصصي المركز من يقومون باستمرار بتصفح كافة مواقع الإنترنت التي اعتاد الإرهابيون استخدامها، ويرصدون أفكارهم ومخططاتهم، فيقوم مختصون بتجهيز الردود العلمية الشرعية عليها بعدة لغات عالمية، ومن ثم يتم تمرير تلك الردود. كل ذلك يتم في دقائق معدودات. لذلك لم يكن غريبا أن يحقق المركز كل ذلك النجاح، مما دفع كثيرا من المؤسسات الدولية المختصة بمحاربة الإرهاب إلى التعاون معه والاستعانة بجهوده.​

الآن ينوي المركز التوسع في العمل بذات الأسلوب، لذلك تم إطلاق مشروع جديد يحمل اسم «تفنيد»، للتصدي للأفكار المتطرّفة عبر فضاءات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعدها التنظيمات المتطرّفة ميدانا لها، تنشر فيه أفكارها المتطرفة، وتجند الأتباع، وتغرر بالشباب الغر ممن يفتقرون إلى العلم الشرعي الصحيح، ولا يحملون في دواخلهم سوى عاطفة دينية طاغية وحماس كبير لم يتم توجيههما بالصورة المثلى التي تؤدي إلى نشر الرسالة السامية ورفعة الأوطان.​

لم يكن مستغربا في ظل هذه الجهود المباركة أن يأتي التقرير الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية داعما للموقف السعودي في مواجهة الإرهاب، مشيدا بالخطوات الكبيرة التي قطعتها في هذا المضمار. فقد أشار التقرير إلى ما بذلته السعودية في سبيل تفكيك شبكات التطرف، والضربات الاستباقية الساحقة التي وجهتها لها، بما استأصل شرها، وقضى تماما على قدراتها. إضافة إلى مساعيها الثابتة في تجفيف منابع تمويل الشر، والقضاء على الشبكات الإجرامية التي كانت تمده بمقومات الحياة من مال وأتباع.​

وأضاف التقرير أن الرياض تصدت بشجاعة مشهودة للتنظيمات الإرهابية العديدة في منطقة الشرق الأوسط، مثل تنظيمي القاعدة وداعش، كما واجهت إرهاب الدولة الذي يقوم به النظام الإيراني وأذرعه المتعددة وعملائه المنتشرين في المنطقة، مثل حزب الله اللبناني وجماعة الحوثيين في اليمن، وقدمت الدعم الكبير، ماليا وعسكريا للتحالف الدولي الذي تصدى لإرهاب داعش في سورية والعراق، مما كان له بالغ الأثر في إلحاق الهزيمة به.​

ما تقوم به المملكة في هذا الصدد يمثل مواجهة شاملة لمجاميع الشر وأوكار العنف، لم تستثن التنظيمات الحزبية الإرهابية مثل جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، التي تسعى وراء ترسيخ حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، تسمح لها بتنفيذ مخططاتها الشريرة وأهدافها المشبوهة. والمملكة عندما تقوم بهذا الجهد الهائل فإنها تستند إلى مكانتها الدينية المتميزة التي تجعلها حمى الإسلام ومركز الدفاع عن رسالته التي انطلقت للعالم كله من أرضها، لذاك فإن واجبها التاريخي والأخلاقي يحتم عليها الحفاظ على تلك الرسالة، كما كانت منذ بزوغ فجرها، صافية نقية، منقذة للبشرية، جاء رسولها الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام رحمة للناس كلهم.​