في جميع بلاد العالم وفي البلاد المتخلفة على وجه الخصوص توجد داخل الطبقة البيروقراطية طبقة أخرى يختلف حجمها باختلاف الظروف والإغراءات والروادع، هي طبقة الرشوقراطية التي تضم الموظفين الذين طوروا أخذ الرشوة إلى فن معقد رفيع. الرشوقراطي في العادة، نتيجة لما يمارسه من فساد ثري ينعم بمستوى عال من المعيشة، من الرشوقراطيين من تتجاوز فواتير الكهرباء في منزله راتبه الرسمي بأكمله، بالإضافة إلى ما يملكه من الأراضي والبيوت وحسابات البنوك، ومنهم من يملك ما لا يستطيع أن يحصيه.

والرشوقراطي في العادة شديد الذكاء، ومنذ قرون شكا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوة الخائن وعجز الأمين، وذكاء الرشوقراطي هو الذي يمكنه لا من البقاء حيث هو، وإنما من التدرج إلى وظائف أعلى فأعلى، وذكاؤه هو الذي يمكنه من أن يظل فوق الشبهة أو على الأقل بعيدا عن طائلة الأنظمة.

والرشوقراطي في العادة شديد النشاط بل إن من الرشوقراطيين من ينجح في بناء سمعة طيبة كإداري ممتاز لا يمكن الاستغناء عنه، ونشاط الرشوقراطي يجذب إليه صلاحيات أكبر فأكبر، كان من الممكن لولا نشاطه أن تنصرف إلى موظفين آخرين، كما أن نشاطه يمكنه من القيام بكافة واجباته الرسمية علاوة على نشاطاته الرشوقراطية الخاصة.


والرشوقراطي في العادة كثير الحديث عن المبادئ والإصلاح، وهو يتبع سياسة الهجوم أفضل دفاع، فلا يضمه مجلس إلا وتحدث عن الفساد وضرورة التطهير وعدد الكثير من معدومي الضمير.

والرشوقراطي في العادة وللأسف الشديد يتمتع باحترام الناس، وهل من المستغرب أن يحظى شخص ثري ذكي نشيط دائم الحديث عن الإصلاح بالاحترام والتقدير؟

والرشوقراطيون ينجحون بطرق مختلفة في التعايش مع أنفهسم، إذا كان الرشوقراطي ينتمي إلى بلد غني أقنع نفسه أن ما يأخذه قطرة من بحر لا تقدم ولا تؤخر، وإذا كان ينتمي إلى بلد فقير صور لنفسه أن ما يأخذه ليس سوى حق مشروع له مقابل ما قدم للبلاد من خدمات لا تقدر بثمن، ومن الرشوقراطيين من ينعق نفسه بأنه يحسن أوضاعه دون إضرار بالمصلحة العامة، على اعتبار أن ما يتقاضاه مأخوذ من أرباح المقاولين لا من ميزانية الدولة، ومنهم من يعمى عن المشكلة الأخلاقية تماما ويتصرف كما لو كان قبول الرشوة أمرا طبيعيا كشرب الماء والأكل والتنفس.

ولكن الرشوقراطي رغم هذا كله لا يعرف السعادة:

لا يستطيع الرشوقراطي أن يسعد بثروته فهو من ناحية مضطر إلى ستر الجزء الأعظم من ماله، بل إن بعض الرشوقراطيين يدعون ضيق ذات اليد بطريقة مبتذلة بذيئة يأنف منها أشد الناس فقرا، وهو من ناحية أخرى مشغول بجمع المال عن الاستمتاع بإنفاقه.

والرشوقراطي لا يستطيع أن يسعد بذكائه، فهذا الذكاء مشغول باستنباط طرق جديدة من طرق الرشوقراطية، أو بحماية صاحبه من الانكشاف دون أن يترك له المجال ليبدع، أو ليحقق هدفا ساميا يتجاوز الذات.

والرشوقراطي لا يسعد بنشاطه الذي يتحول إلى لعنة عليه لا تدع له دقيقة للاسترخاء – والرشوقراطي في العادة متوتر الأعصاب – ولا تدع له وقتا يقضيه مع عائلته وأولاده.

والرشوقراطي لا يستطيع أن يسعد بحديثه عن المبادئ والإصلاح، لهذا الحديث رنة خداع تقرع سمعه، قبل أن تقرع آذان المستمعين، حديث الرشوقراطي عن المبادئ كعزف العود ذي الأوتار المقطعة.

والرشوقراطي لا يسعد باحترام الناس فهو يدرك أن الاحترام موجه إلى مركزه قبل أن يكون موجها إلى شخصه، وهو يدرك أنه لا يستحق الاحترام وهو ينسحق بتفاهته عندما تلتقي عيناه بعيني موظف آخر تعرض للمغريات فكان أكبر منها، وآثر أن يعيش بجيب خال وصدر مليء بالحب والثقة والإيمان.

يبحث الرشوقراطي في أعماقه عن زهور الرضى فلا يبصر إلا أشواك الطمع، وينقب في صدره عن لذة السكينة فلا يجد سوى جيشان القلق، يبحث عن حب كبير في قلبه فلا يجد إلا عبودية ذليلة للدرهم والدينار، باختصار يبحث الرشوقراطي عن السعادة فتستعصي عليه: لا سعادة إلا باحترام الذات، وكيف يستطيع الرشوقراطي أن يحترم نفسه وهو يدرك أن روحه -والروح أثمن ما لدى الإنسان- مطروحة في المزاد كأي قطعة أثاث قديم مستعمل.

قدر الرشوقراطي في الدنيا أن يبقى مخادعا قلقا جشعا، يجري وراء سراب المال الحرام، دون أن يعرف للسعادة الحقيقية طعما، أما في الآخرة حيث لا توجد رشوة ولا مرتشون ولا وسطاء، فالمصير الذي ينتظر الرشوقراطي أشد ظلاما من ضميره، وهو يعد مصيرا عادلا يتناسب وفداحة استهتاره بمسؤولياته نحو الله والوطن.