لا يستطيع نظام صحي مهما أُوتي من إمكانيات مادية وبشرية وبنى تحتية، أن يُخصص سريرا لكل مُواطن ومُقيم على أرضه، وتأمين مُمارس صحي لكل شخص، وأن يُؤمن الأدوية والمُستلزمات الطبية كافة للمُواطنين والمُقيمين «بعدد السكان» كافة، وهذا ضرب من الخيال. وفقاً للإحصائيات فإن هناك ما يُعرف في الأنظمة الصحية بتأمين سرير يتناسب وعدد السكان، ليشمل الأمر كذلك تأمين مُمارس صحي ما بين أطباء ومُختصين ومُمرضين بنسبة «ما» وتعداد المُجتمع، ليتعقد المشهد للحديث عن التخصصات الطبية الدقيقة وهكذا.

من الواضح أن زيادة عدد الأسرة وعدد المُمارسين الصحيين لعدد أقل من المُجتمع «بنسب عدد الأسرة والمُمارسين الصحيين لتعداد السكان العام» يُعد مُؤشراً مهما لتقدم نظام الرعاية الصحية، وفي ذات الوقت يُعتبر مُؤشر «خلل» في منظومة برامج تعزيز الصحة والوقاية من المرض. لاحظنا في أزمة تفشي جائحة كورونا شبه انهيار لأنظمة صحية كنا نعتقد أنها «مُتطورة»، ووقفنا على مشهد «النداءات الصحية» حتى بحت الأصوات من التحذير المُستمر من انهيار النظام الصحي، نظرا لزيادة انتشار مُعدل الإصابات بفيروس كورونا مُقابل عدد الأسرة في المُستشفيات، خاصة أسرة العناية المركزة، وعدد أجهزة التنفس الاصطناعي، ليشمل الأمر الكمامات الطبية والتي أصبحت تُباع في السوق السوداء نتيجة الخلل في مُعادلة إيجاد كمامات لنسبة عدد السكان. إنها أزمة جائحة كورونا غير المُسبوقة في هذا العصر الذي نعيشه وقد «حاست» كل المُعادلات الصحية، ولا زالت الأزمة قائمة، ويبقى هذا الفيروس الغريب العجيب «بمُستشعراته الحسية»، يُغير هيئته وجلبابه وسياسته وشعوبيته وقوته، ليفتك بأعصاب البشر، ليُعلن أنه فيروس العصر الذكي والمُتمرد ولا منازع.

قاهر هذا الفيروس «المُعاند والمغرور» العظيم هي الوقاية منه من خلال اتباع السلوك الصحي، فلعله يُعيد حساباته في الرحيل عندما لا يجد له سوقا، وقاهره الثانوي هو إيجاد لقاح وعلاج ناجع وفعال، ولكنه يبدو أنه قرأ، أن كلا من اللقاح والعلاج رغم عدم استحالة وجودهما، لكونه يعلم أن الله لم يخلق داء إلا وله دواء، إلا أنهما دخلا دهاليز عالم الاقتصاد والسياسة «مقبرة الإنسانية» لذا زاد في تمرده ولعانته.

خلق لنا الله مُعالجا معرفيا «Cognitive Processor» يلتقط مصادر الخطر من خلال مُستشعرات حسية من الخارج والداخل، لتُعالج معرفيا من خلال هذا الجاهز العجيب «المُعالج المعرفي»، والذي بدوره «يُدرك الخطر» ليصدر استجابات سلوكية، تتمثل في اتباع سلوكيات الوقاية بالكامل ليتحقق المرجو. عمد نظامنا الصحي في بداية انتشار الجائحة إلى اتباع إجراءات صحية عاجلة تمثلت في «الإغلاق الكلي» ولمدة أشهر للتعاطي مع الأزمة، لينتقل الأمر إلى مراحل «أقل في الإغلاق»، ليصل الأمر إلى مُمارسة الحياة الطبيعية رغم وجود الفيروس، كما هو حالنا اليوم، واستثماره الحقيقي في الوقاية مع توفير الرعاية الصحية لمن غزاه هذا الغازي الثقيل، فكانت الوقاية إلزامية في مرحلة الإغلاق الكلي والجزئي، لتُصبح اليوم «وقاية شخصية-فردية-مُجتمعية إدراكية» يقودها المُعالج المعرفي لكل منا.

انقسمت مُعالجاتنا المعرفية إلى ثلاثة أقسام؛ الأول من لديه مُعالج معرفي «مُفرط»، أفرط في مُعالجة المعلومات الواردة إليه المتعلقة بالفيروس، فكانت المُخرجات «قلق وهلع وكآبة» من الإصابة فاقت آثارها الصحية ما يتركه الفيروس الحقيقي من أثر، والنتيجة مُعاناة وسوء جودة حياة؛ والثاني لديه مُعالج معرفي «مُفرَط»، تساهل في مُعالجة المعلومات الواردة إليه فكانت الاستجابة إهمال الوقاية، والنتيجة ضرب كل سلوكيات الوقاية «عرض الحائط»، والمُفضية لاختلاط مُفرط وعدم الالتزام بالتباعد الاجتماعي، لتُقام الولائم والمُناسبات والأعراس والمآتم، وتجاهل نداء استخدام الكمامات وغسيل اليدين، وكأن اليوم كالأمس، والنتيجة زيادة الأعداد في الإصابة، والتي تُدمي قلوبنا يوميا من خلال ما نسمعه ونشاهده من المُتحدث الرسمي لوزارة الصحة، هذان الاثنان من المُعالجات المعرفية «مُرْضيان»، ليأتي المُعالج الثالث وهو من أدرك الخطر من خلال مُعالجة المعلومات الواردة إليه «عقلانيا»، فلا إفراط ولا تفريط، فكانت النتيجة الالتزام بقواعد سلوكيات الوقاية ومُمارسة أنشطة الحياة المُختلفة تحت شعار «كلنا مسؤول»، وهذا المُعالج المعرفي «صحي» لكونه يقود لانحسار انتشار الفيروس، ليمت بكمده، لينتهي ويتلاشى بحول الله.

ما نحتاجه اليوم هو تغيير محتوى «مُعالجاتنا المعرفية» نحو الفيروس وتداعياته، والتي لا شك ستفضي إلى نجاح مُطلق في إنهاء الأزمة والعودة لحياتنا الطبيعية، المشكلة أنه لا يُوجد لقاح لامتلاك «مُعالج معرفي سليم»، وليس هناك عقار طبي لعلاج «المُعالج المُفرط ولا المُفَرط»، وإنما هناك تفعيل لمُخرجات «العلوم السلوكية الصحية» في المجال الوقائي، والتي هي قاعدة الصحة، على نظامنا الصحي تبني مثل ذلك عاجلا، فليس الأمر مُجرد وجود سرير ومُمارس وجهاز ودواء، القضية أكبر من ذلك بكثير، إنها الوقاية ولا غير.