فإذا كانت نهضة العلوم التقنية قد تقدمت لدى المسلمين في القرون الأربعة الأولى في البلاد التي كانت الهيمنة فيها للتوجه العقدي السلفي وللدول المتبنية المنهج السلفي، فما الذي حدث وكيف توقفت هذه النهضة؟

وسأسوق الجواب على هذا التساؤل إجمالًا أولًا، ثُمَّ بشيء من التفصيل. أما الإجمال: فالسبب هو مخالفة أمر الله تعالى القاضي بالتفكر والبحث في عالم الشهادة والتسليم لله تعالى في عالم الغيب، حيث تعاظم أمر البحث في عكس ما أمر الله به وهو عالم الغيب وساد أوساطَ الأذكياء، وضَعُفَ البحث في عالم الشهادة.

أما التفصيل: فقد افتتن بالفلسفة اليونانية طوائف من الشباب في وقت مبكر، وبدأوا في الخوض في قضاياها التي كان منها: نظريات الطبيعة، وفرضيات ما وراء الطبيعة، وفرضيات علم المعرفة. فأما القسم الأول فقد وُفِّقوا فيه حيث نقلوه من كونه علومًا نظرية إلى حيز التطبيق عن طريق ما عُرِف فيما بعد بالعلم التجريبي، وهو موافق لما ذكرتُ آنفًا بأنه الأمر القرآني بالبحث في عالم الشهادة. وأما الثاني والثالث فقد بدأ بحثهم فيهما ضعيفًا وغير طاغٍ على الجانب الأهم وهو العلم التجريبي، إلا أن المشكلة جاءت حين تطور الاهتمام بما وراء الطبيعة وخرج من حيز النقاش الفلسفي العقلي المحض لِيَتِم إدخاله عن طريق علم الكلام إلى الشرع الإسلامي، فتصبح أقوال الفلاسفة جزءًا من الدين، وذلك على يد المعتزلة ومن بعدهم الأشعرية. هنا بدأ الانحدار والبعد عن العِلم التجريبي، فكما أدخل القديس أوغسطين وتوما الأكويني بعض الآراء الفلسفية اليونانية في الدين النصراني، تم إدخالُ مفاهيمَ يونانية وبراهمية ورومانية إلى الإسلام، وزَعْم أنَّ تلك الآراء هي التوحيد والدين الحقيقي؛ كنفي اتصاف الإله بالصفات، ونسبة خلق الأفعال إلى البشر والقول بالجبر، وغير ذلك من العقائد الماورائية والتي استشرس المعتزلة ثم الماتوريدية والأشاعرة من أجل إقحامها في دلالات النصوص بدرجات متفاوتة.

هذا الانحراف لم يكن مؤثرًا كثيرًا في القرون الأربعة الأولى لكون الخوض في تلك القضايا ظلَّ نخبويًّا، كما أن علماء الشريعة لم ينخرطوا فيه بشكل كبير؛ ومَن دخلوا في هذا المجال منهم بقوا موضع انتقاص في هذه الجزئية، واعتُبِرَت من سقطاتهم كأبي بكر الباقلاني رحمه الله [تـ403]. أما بعد فرض مذهب الأشاعرة سياسيًّا على يد السلاجقة في المشرق والموحدين في المغرب، فقد بدأ بالفعل ذهاب الأجواء المُشجِّعة على البحث العلمي في عالم الشهادة، وهو بحق عصر بداية التوقف في علوم الفيزياء والكيمياء والفلك والصناعة، وذلك لأسباب عدة منها: انشغال أذكياء الأمة بهذا الجدل بشكل كبير حتى ألهاهم عن أبحاث عالم الشهادة، مما جعل أبا حامد الغزالي رحمه الله وكان من عظماء الأشاعرة وأهل الكلام يقول عن علم الكلام: «والدليل على تضرر الخلق به: المشاهدة والعيان والتجربة، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون، وفشت صناعة الكلام مع نهي العصر الأول من الصحابة رضي الله عنهم عن مثل ذلك. ويدل عليه أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم –لا لعجز منهم عن ذلك– فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه، ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضًا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض». وقال أيضًا:«إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فما زادوا على أدلة القرآن شيئًا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات. كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا تقنعه أدلة القرآن، لا يقنعه إلا السيف والسنان فما بعد بيان الله بيان».

ومن أسباب كون الانغماس في الكلام كان من أسباب التوقف عن علوم التقنية: أن الأفكار الكلامية عن الله تعالى وعن القضاء والقدر وعن توحيد العبادة كانت منافذ كبيرة لدخول مذهب الحلول والاتحاد والفكر الباطني والتصوف الخرافي وتعظيم الميتين وسؤالهم من دون الله تعالى؛ فالقول بنفي الصفات عن الخالق عز وجل لزم منه إثبات الحلول والاتحاد، والقول بالجبر نتج عنه تشريع الخمول والتنبلة والدروشة؛ والفكر الهندي، وضعف العناية بتوحيد الألوهية نتح عنه تشريع دعاء غير الله تعالى والاستغاثة به.

هذا مع أن الأشاعرة الأولين وكبار أهل العلم من الأشاعرة المتوسطين والمتأخرين لم يكونوا يقرون كثيرًا من هذه البدع التي تسربت بين الناس؛ لكنْ مما لا أشك فيه: أن تلك الأقوال الفلسفية ودخولها في المذهب الأشعري كان لهما أثر في تمرير تلك الخرافات، وإن لم يكن في إقرارها ابتداءً؛ كما أن الباطنيين الذين كانت لهم صولة في القرنين الخامس والسادس كان لهم ارتباط بالرواقيين والأفلوطينيين من أتباع الفلسفة اليونانية والإسكندرية القديمة؛ وظل هذا الوضع يتفاقم حتى أطبقت الخرافة على العالم الإسلامي كله، ولم يكن الجو ملائمًا أبدًا في تلك الأحوال لنهضة علمية تقنية.

إذاً فالانبهار بالفلسفة اليونانية الأوروبية ودخول بعض أفكارها إلى بعض المذاهب الإسلامية كانا سببًا في توقف المنجزات العلمية الإسلامية عند حد معين؛ ولو أن المسلمين تخلصوا مبكرًا من أفكار البحوث الغيبية اليونانية واستمروا في تطوير علوم الطبيعة عند اليونان والهنود والصينيين، وابتكار ما يوفقهم الله إليه، بحيث تقتصر جهودهم على البحث في عالم الشهادة، لكانوا وصلوا إلى مراحل من التقدم تُسْعِد الإنسانية، وربما كان بأكثر مما صنع الغرب؛ ولم يكن ليُخلِّص المسلمين من ذلك إلا الرجوع إلى فهم السلف رضي الله عنهم للكتاب والسنة وإلى تصوراتهم المأخوذة منهما عن الدين والكون والحياة؛ وقد قام ابن تيمية رحمه الله تعالى بحركته التصحيحية رغبة في أن تستقيم الحياة الدنيا كما أراد الله عز وجل لها، فتعود مهمة عمارة الأرض إلى مسارها الإصلاحي في ظل استعبادٍ صحيحٍ خالصٍ لله عز وجل؛ لكن هذه الحركة وإن بقي أثرها العلمي حتى يومنا هذا، إلا أن امتداد أثرها على المجتمع كان محدودًا مكانًا وزمانًا؛ وذلك بسبب استعداء الأشاعرة الذين يدَّعون العقلانية والمتصوفة دعاة الحب على ابن تيمية، وما دعا إليه من الرجوع للوحي ومنهج السلف في فهمه، وما دعا إليه من تحرير العقل من الخرافة، وإلى بعث الاجتهاد المُحَرِّك لفقه الأمة. فعاد المسلمون بعده إلى ظلمة الخرافة وجمود الفقه وانحراف المعتقد، وكل ذلك زاد في ركود الأمة فيما كُلِّفت به من عمارة الأرض والاستخلاف فيها في جانب البحث في عالم الشهادة. وبدت عدة بوارق للإحياء الإسلامي الذي لا يكون إلا بالعودة لمنهج السلف، لكن تلك البوارق يتم إطفاؤها من قِبَل المستفيدين من العيش في الظلام، حتى جاء الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، واقترنت دعوته بالدولة الحامية لها الموسعة لمدى بلوغها، فكان من ثمارها ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من تنوير فكري.