نعرف يقينا أن اللغات تتطور، فهي تسير عبر الأزمنة والعصور دون أن يدرك الإنسان آلية تحولها من طور إلى طور، أو يتنبأ باتجاه مسيرة التطور اللغوي، حتى بالطرق العلمية الحديثة، فأدوات العلم الحديث لا زالت عاجزة عن تفسير هذه الظاهرة، وكما يقول رمضان عبدالتواب: «في الدرس اللغوي لا يمكن الإجابة على السؤال: لماذا آثرت الظاهرة اللغوية السير في اتجاه معين ولم تسر في اتجاه آخر؟ ولا يستطيع أكبر عباقرة اللغة، معرفة لماذا تطورت القاف في بعض اللهجات المصرية إلى همزة، ولم تتطور إلى غين، كما حدث لهذا الصوت، في بعض نواحي العراق والسودان».

التطور اللغوي يشبه إلى حد بعيد ظاهرة التطور الديني (Religious Evolution )، فالمعتقدات والطقوس الدينية تتبدل وتتحول وتتطور عبر الزمان والمكان، فضريح الولي الصالح لا يصبح مزارا مخصصا للعبادة والصلاة بعد وفاة الولي الصالح مباشرة، بل تتطلب هذه العملية عقودا طويلة من الزمن قد تصل إلى قرون، فهي عملية بطيئة جدا لا يمكن تتبع أسبابها بسهولة.

فالمعتقد الديني يتحول عبر الأزمنة إلى معتقد جديد، وهذا المعتقد الجديد يتحول إلى معتقد آخر، وهكذا دواليك حتى تتبدل الديانة مع تبدل المجتمعات، فتصبح -على سبيل المثال- تعاليم الفيلسوف نصوصا دينية تعامل معاملة الكتب السماوية، وكل هذه التحولات في المعتقدات الدينية كانت نتيجة طبيعية للابتداع البشري في الدين، لذلك أخذت البدعة الشرعية حيزا كبيرا في فكر الفقهاء في الحضارة الإسلامية، فقد كان الفقهاء على وعي تام بظاهرة التطور الديني التي تأخذ من التاريخ والزمان والمكان مسرحا لها، لذلك بدأوا للتنظير وصناعة الفرضيات والنظريات لظاهرة البدعة، حتى خرجوا بنظرية متكاملة قادرة إلى حد كبير على تفسير الظاهرة والتنبؤ بحركتها عبر الزمن وبالتالي مقاومتها.

وفي نبوءة للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: «بدأ الإسلام غريبا، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء حين يفسد الناس»، وفي رواية أنه سئل عن الغرباء: قال: «الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي»، ويقول في حديث آخر: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». وكل هذه النبوءات تتناول موضوعا محددا وهو التبدل والتغير في الدين بسبب العبث البشري، وهذه الأحاديث كانت مقدمات حفزت الفقهاء لدراسة البدعة الدينية لاحقا، حتى وصلت مع أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي إلى صورتها النهائية كنظرية متكاملة قادرة على التفسير في كتابه (الاعتصام)، الذي كان من أفضل ما كُتب عن ظاهرة الابتداع في الدين، أو ما يطلق عليه اليوم بالتطور الديني (Religious Evolution ).

فهل ما قدمه الفقهاء وفي مقدمتهم الشاطبي من أفكار يرتقي لمستوى النظرية ويحقق شروطها ومعاييرها العلمية؟ لنبدأ أولا بتعريف الشاطبي لمفهوم البدعة وهي: «عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه»، وهناك تعريف آخر يقدمه الشاطبي ويميزه عن السابق من حيث دخول العادات والأعمال العادية في مفهوم البدعة فيقول: «البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية».

يتضح من تعريف الشاطبي للبدعة الفهم العميق للمجتمع المتغير وعلاقته الجدلية مع المعتقد الديني، الذي يفترض به أن يكون ثابتا، يقول الشاطبي: «إن المحدثات تدخل في المشروعات، وأن ذلك قد كان قبل زماننا، وأنها تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن»، والشاطبي طبعا يفرق ما بين البدعة الشرعية والأفعال العادية المستحدثة التي لا تدخل ضمن نطاق البدعة، أي أن هناك فرضية تقدم جدلية بأن المعتقد الديني ثابت والمجتمع البشري متغير، فكيف يمكن حماية المعتقد الديني الثابت من حركة المجتمع المتغير؟.

فالقدرة على التفسير تعتبر من أهم أركان النظرية، ومعناه معرفة الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الظواهر، بحيث يتوقع حدوثها قبل أن تكون. وأعتقد أن القدرة على التفسير حاضرة في نظرية البدعة عند الفقهاء. يقول الشاطبي: «إن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم، لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته، لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه، ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه، وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها».

يتضح من كلام الشاطبي الفهم العميق للنفس البشرية ولسيكولوجية المبتدع، والفهم أيضا لما يحدث داخل سياق المجتمعات، ويطرح الشاطبي بعض الأمثلة الحية على بعض البدع من وجهة نظره ومنها: «التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي عيدا، والتزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها في ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته»، ويعلق على هذه السلوكيات بوصف أنها تضاهي الأمور المشروعة، وهذا ما يميزها عن الأفعال العادية.

وهذه النظرية تتميز بسعة مساحتها التفسيرية، بمعنى أنها قادرة على تفسير حالات كثيرة من الظواهر المتعلقة بالشريعة، مع قلة ما فيها من المفاهيم والعلاقات، وأيضا بمرونتها الكبيرة، حيث تتضح قدرتها على استيعاب حالات ومستجدات كثيرة وجديدة. ونحن اليوم في العصر الحديث، نشهد رفضا لبعض السلوكيات البشرية، بحجة أنها بدعة، انطلاقا من نظرية البدعة وما تقدمه من تفسيرات وتحليلات.