تؤطر المفردات معانيها وترسم أبعادها في الأذهان عبر الزمن، وفي هذا المقال سأتحدث حول مفردة (القانون) وهي مفردة ذات قطبين، فهي من جهة تعبر عن كل ما ينظم الحياة والأعمال والحقوق، سواء أكان مستندا على نصوص شرعية أو على نظم وضعية، ومن جهة أخرى فقد ارتبطت هذه الكلمة في أذهان بعض الشرعيين بالاستعمار والهزائم واستنساخ التجربة الغربية.

والحقيقة أن النفور من مفردة (القانون) أدى لمشاكل هيكلية قانونية، نتجت عن اتساع مساحة العمل الشرعي في المجال العدلي السعودي.

وإذا نظرنا - على سبيل المثال - للقضاء فإننا نجد الحاجة الماسة لتوحيده وتخصيصه، بدلا من تعدد الجهات القضائية، خاصة اللجان القضائية التي تعمل داخل الجهات التنفيذية.

كذلك ازدواجية التعليم بين كليات القانون وكليات الشريعة، وهي ازدواجية طبيعية في ظل استمرار الاحتياج للمخرجات الشرعية في سوق العمل.

إن تقنين الفقه الإسلامي اليوم لم يعد رفاهية بل ضرورة تحتمها طبيعة المرحلة ومتطلبات العصر. والتقنين لا يتعارض مع الشريعة على الإطلاق، بل إن تصدير النصوص الشرعية إلى مواد ذات بناء قانوني سيكون من شأنه خلق مدرسة قانونية سعودية معتبرة.

أعلم أن البعض قد يقلل من قيمة هذه المدرسة بحجة أن استيراد مفهوم التقنين وألفاظه هو عمل يفتقر للأصالة، إذ لا يوجد شق عربي للكلمة فهي مأخوذة من اليونانية kanôn، وتنقلت بين الرومانية والفرنسية حتى وصلت إلينا، ولكن هذه الفكرة مجتزأة تماما، فقد زخرت الفلسفة الإسلامية بهذه المفردة واستخدمها الفقهاء الأوائل في أطروحاتهم العديدة، فيقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى «فتلك القواعد الفاسدة التي جعلوها قوانين..». أما الفقيه المالكي ابن جزي فقد كان عنوان كتابه في الفقه (قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية)، وابن رشد في بداية المجتهد يقول «لتكون كالقانون للمجتهد...».

والقرافي في الفروق «وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى.... وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام».

والمفردة استخدمها كثيرون، مثل الماوردي في الأحكام السلطانية، والرازي في التفسير الكبير.

لقد تعددت المواقع التي استخدم فيها الفقهاء مفردة (القانون) ولم يظهر نبذ الكلمة ومشتقاتها إلا متأخرا مع ظهور الأحزاب السياسية التي ربطت القانون بأعمال المستعمر ومدارسه الفكرية، وفرغتها من مضمونها اللغوي الطبيعي.

وأعتقد أن هذا كان خطأ تاريخيا جسيما نحتاج اليوم لتصحيحه.